آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

منتدى الثلاثاء.. عشرون عاماً من الحراك

إياد أمين مدني *

يحتفي منتدى الثلاثاء الثقافي بمرور عشرين عاماً على إنشائه، رافعاً شعار ”إثراء.. تنوع.. تميز“، معلناً اهتمامه بالحوار حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية؛ والتواصل مع النخب المثقفة داخل المملكة وخارجها؛ وساعياً في برامجه ونشاطه وندواته إلى تناول مواضيع التعايش المجتمعي والسلم الأهلي والتسامح الديني والتعددية والتنوع وحقوق الإنسان وتجديد الفكر الديني؛ مؤكداً التزامه بمواصلة خوض معترك الحياة الثقافية بكل تفاصيلها؛ والمضي في مسيرته التنويرية بأفق وطني شامل يُشرك جميع فئات المجتمع.

وتحقيقاً لهذه الرؤية والأهداف، نظم المنتدى على مدى العشرين عاماً الماضية مئات الندوات والمحاضرات والمعارض وأوجه النشاط الثقافي الأخرى.

ويتضح أثر حراك المنتدى في تعبيرات الثناء والحث على مواصلة المسيرة من كثير من الذين تعاملوا مع المنتدى أو شاركوا في فعالياته. فقد رأى البعض أن علينا جميعاً أن ”نشعر بالفخر لأننا واكبنا نجاح مشروع ثقافي وتنويري تمكن خلال عشرين عاماً من جمع قادة الفكر وأصحاب الرأي تحت مظلته. وأن ما يميّز المنتدى حقيقة، هو أنه بات يشكل مساحة تتفاعل فيه جميع توجهات المجتمع وتجعل منه معقل الرسالة الحضارية للمملكة حول التعايش المجتمعي والسلم الأهلي والتسامح الديني وتجديد هذا الفكر والتعددية والتنوع وحقوق الإنسان“.

وأن المنتدى ”قد بدأ نشاطه في مرحلة جزر ثقافي، ونجح في تحلية المياه الثقافية وانتشالها من تزايد الملوحة والجذب. فبين الثمانينات الميلادية واليوم أربعون عاماً مرت فيها البلاد والمجتمع بظروف تفاوتت من الانفتاح والانغلاق وتقبل الآخر، ومع هذا حقق المنتدى دوراً في غاية الأهمية من حيث تمسكه على أرض الواقع بقيم الثقافة البناءة وتطبيقها بتقديم ذوي الأفكار التجديدية، وإتاحة مساحة إيجابية لتمكين كل الطاقات والقدرات، والترحيب بالمواهب الأدبية والعلمية والفنية. ففيه حضرت الفلسفةُ بصرامتها، والدينُ بقدسيَّته، والشعرُ بإضاءاته، والروايةُ بحبكتها، والفنُّ بنجوميَّته، والوطنُ بهمومه، والعالمُ بأحداثه؛ وقد كانت أجمعُها سواسيةً تحت مجاهِرِ الحوار وكشافات النقد أمام المنتدى ذاته“.

وأنه ”رغم كل الظروف التي مر بها المنتدى والتحديات، أصر على قيمة التجديد الثقافي، وكان بإمكانه التخلي عن هذه القيمة والتماشي مع المزاج الاجتماعي المحافظ إلا أنه فضل التجديد على غيره من المغريات لأن قيمة التجديد أو سؤال التجديد ليس ترفاً فكرياً، بل هو حاجة اجتماعية لأي مجتمع حيوي متطلع نحو التقدم والتغيير والاستعداد لشروط المستقبل وما يتطلبه من عدة وعتاد“.

وأننا ”نستطيع حقاً أن نُنزِل منتدى الثلاثاء الثقافي منزلةً متقدمةً في حياتنا الثقافية في المملكة العربية السعودية، بما انطوى عليه من نشاط ثقافي وأدبي وفني يبتغي القائمون عليه، ومن ورائه، أمرين: إحياء تقاليد المجتمع الأهليّ في تراثنا العربي الإسلامي، ومد النسب إلى مؤسسات المجتمع المدني في العصر الحاضر“.

ولا أظن أن المجاملة كانت الدافع الوحيد لمثل هذه الإطراء، بل يبدو أنه تعبير عن إعجاب حقيقي صادق بإنجاز منتدى الثلاثاء.

فالمنتدى الذي جعل من مدينة القطيف في شرق المملكة العربية السعودية محطة انطلاقه ومركز نشاطه، واجه بنجاح تحد الأطراف مع المركز. فالقطيف، على الرغم من مكانتها التاريخية، ليست من مدن المركز الذي يتمثل في الرياض وجدة والدمام. كما أنها - أي القطيف - تحمل في أذهان البعض تصوراً نمطياً فئوياً، حتى ولو كان محفوفاً بحسن النية والإيمان بالمواطنة المشتركة.

وكان من إنجازات المنتدى الهامة، إضافة إلى وضع القطيف على خارطة الحراك الثقافي في المملكة، أنه قدم في إطار ثقافي وطني من برزوا من رجالات المنطقة، بإسهاماتهم الثرية في مسيرة المملكة الثقافية والمجتمعية من أمثال الشاعر والمحقق السيد عدنان العوامي، والأستاذ الدكتور فؤاد محمد عيسى السني؛ والشيخ علي المرهون؛ والسيد حسن العوامي.

كان أيضاً من المحطات الهامة، لمسيرة المنتدى قدرته على اجتذاب أسماء مرموقة تنوعت اهتماماتها وتمثل الطيف الثقافي الوطني أو تكاد، للحديث من منصته. مثل، مع حفظ الألقاب، الدكتور علي إبراهيم النملة، وعبدالله المعلمي، والشيخ حسن موسى الصفار، والشيخ عيسى عبد الله الغيث، ومحمد العلي، وإبراهيم البليهي، ومحمد الحرز، والدكتور توفيق السيف، والدكتور حمزة المزيني، والدكتور خالد الدخيل، والدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك، وحسين شبكشي.

كانت تلك، وغيرها، علامات في مسيرة منتدى الثلاثاء دلت على تخطيه محليته، واكتسابه ثقة وتقدير المجتمع الثقافي على مستوى الوطن.

والآن وقد استطاع منتدى الثلاثاء أن يجتاز هذا القدر من التحديات بتوفيق من الله ثم بحسن تنظيمه وجدية القائمين عليه ووضوح رؤيتهم، ينبغي علينا أن نسأل وماذا بعد؟ ماذا يمكن للمنتدى أن يضيفه على ما قدمه؛ وأي أبواب أخرى يمكنه أن يلجها، وأي دروب جديدة يمكنه أن يطرقها؟ فديناميكية العمل الثقافي ليس لها محطة نهائية، بل هي حراك مستمر يتفاعل مع ما حوله من مستجدات وقضايا وهموم ومشاغل وتساؤلات مجتمعية لا ينفك سيلها عن التدفق والتجدد.

وإن كان لنا أن نستعير من تجربة الأندية الأدبية الثقافية في المملكة، فقد سعت وزارة الثقافة والإعلام في مرحلة من مراحل نشاطها إلى تشجيع الأندية الأدبية على التواصل مع مكونات المجتمع المحلي في مناطقها وليس مع نُخَبِه فقط. وكذلك دعت الأندية إلى تنظيم احتفالية دورية باسم رمز، أو أكثر، من رموز الفكر والثقافة والأدب والإبداع في كل منطقة من الذين يحملون قيمة تاريخية وتراثية باقية. كما تم البدء في استثمار مناسبة معرض الكتاب بالرياض لدعوة دولة من الدول لتكون دولة ضيفاً على المعرض بما تمثله من أدب وفكر وثقافة؛ كما تم إطلاق أسابيع ثقافية سعودية في الدول الأخرى شملت تعبيرات ثقافية عدة من سينما ومسرح وموسيقى وغناء وفنون تشكيلية وأزياء، وندوات ثقافية وغير ذلك بغية تقديم الوجه الثقافي للمملكة بثرائه وتعدده. ولعل في شيء من ذلك الحراك ما يستطيع المنتدى الاقتباس منه.

فتنظيم احتفالية بشخصية ثقافية بارزة يرتبط اسمها بالمنطقة سيمكن المنتدى من تجذير وإبراز استمرارية الخلق والإنشاء وعراقة الإبداع في المنطقة ومن ثم في أرجاء هذا الوطن. كذلك فإن التواصل مع النخب وإتاحة منصة المنتدى أمام اجتهاداتهم ورؤاهم له بريقه وله دوره في تأسيس وعي مجتمعي وإبراز المفاهيم الكبرى وإيصالها - إلا أن استيعاب اهتمامات المجتمع خارج محيط النخب سيوسع من شبكة التواصل بين المنتدى والمتلقين، ويسهم في تجسير العلاقة بين ما يختزنه البعض من صور نمطية عن أبراج النخب العاجية، وبين قناعة النخب بدورها التنويري تجاه العامة، خاصة وأن مفاهيم العامة والدهماء والرعاع تختلط في مخيلنا الثقافي، بل والمجتمعي كافة.

كذلك فإن إلقاء الضوء على التلاقح الثقافي مع الجوار الجغرافي الناتج من التبادل الإنساني عبر القرون، كما هو الحال في مظاهرة التجارة والتزاوج والهجرات والتعليم والفولكلور، هو مظهر من مظاهر الثراء الثقافي للمملكة. ففي المنطقة الجنوبية الغربية نرى مثل هذا التلاقح مع الشرق الأفريقي واليمن؛ وفي المنطقة الشمالية نجده مع الشام بأطرافه؛ وفي مدن الحجاز وخصوصاً مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف يتمثل في الهجرات الجديدة والعائدة من أصقاع العالم الإسلامي أجمعه؛ وفي المنطقة الشرقية نرصده مع دول الخليج والقارة الهندية والعراق. وإظهار مثل هذه الصلات سيؤصل دور المنتدى في التواصل والتقارب مع جيرة المملكة الثقافية؛ بل وإظهار أصالة ثقافتنا الوطنية وتأثيرها على ما يجاورها.

كما أن المرحلة القادمة من نشاط المنتدى لابد وأن تطمح إلى تخطى التنوع العام إلى التنوع المؤطر. فهناك قضايا كبرى تواجه المجتمع، وتَمْثُل أمام أجياله الشابة، كما أن طبيعة المتلقين قد اختلفت باختلاف عجينة وتركيبة هذه الأجيال الشابة التي يتكون وعيها داخل دوائر تواصل تجتاز الحدود وتتعدى الخصوصيات. فالعالم أَلِف العولمة؛ والعولمة ليست تبادلاً تجارياً فقط، بل في بعض أبعادها هي تعميم لمفاهيم باتت تطرق أسماعنا، وتلح علينا وتضغط على قناعاتنا الاجتماعية وأنماطنا الثقافية وحتى ممارساتنا اليومية من مشرب ومأكل وملبس. تيارات العولمة هذه تحتاج من مراكز الاشعاع الثقافي أن تتوقف عندها، وتسهم في تعميق الفهم بها.

فنحن نكثر الحديث على سبيل المثال عن مفاهيم الليبرالية، والنفعية، والشعبوية، والجنسانية، دون أن نتوقف ملياً عند كل منها؛ ونرددها وكأن لكل منها نمطاً واحداً أو فهماً واحداً؛ مع أن لكلٍ تاريخاً ممتداً ومملوء بالاجتهادات المختلفة وربما المتضادة والمتباينة. فلو أخذنا الليبرالية على سبيل المثال، نجد في السياق الغربي أن ليبرالية جونلوك وهويز الكلاسيكية ليست هي نفس ليبرالية مانيول كانت أو جون راول ونوزك في أيامنا هذه. والوقفة المطلوبة هي في تأمل هذه الفهوم المختلفة، واستنطاق مدى تماهيها أو توازيها أو تعارضها مع ثقافتنا وقناعاتنا المجتمعية. وإن كانت الليبرالية هي فلسفة العصر وثقافته وتوجهه السياسي، فكيف يمكن لنا أن نعيش العصر دون فهم وتواصل مع مفاهيمها وعلاقاتنا بتلك المفاهيم.

والأمر ينسحب بصورة أو بأخرى على كل تلك المبادئ والأطر التي باتت تشكل واقع العالم، ليس في شكله السياسي وممارسته الاقتصادية فحسب، بل في كل أشكال معيشته وشبكاته وممارساته المجتمعية.

فهل لنا أن نرنو إلى مراكز الاشعاع والعمل الثقافي أن نقوم بدورها في تأسيس هذا الفهم؛ وأليس من المشروع أن نتوقع من المنخرطين في النشاط الثقافي تخطي مفهوم منصة ”الهايدبارك“ حيث يتحدث الجميع عن كل أمر، إلى مفهوم التنوع داخل مسيرة صنع الوعي في عالم بات تصنيع وتصدير مفاهيم الوعي فيه نشاطاً يحتل الصدارة.

وزير الثقافة والإعلام سابقا