آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 12:54 ص

الأصنام الثقافية!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

يقول محدثي: ما علاقتنا بالسلوك الشخصي للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي كتبنا عن قضية أثارها رفيق دربه الفيلسوف غاي سورمان، اتهمه بممارسات شاذة مع أطفال بين المقابر أثناء إقامته في تونس، أواخر الستينات...؟!

يضيف: إن العلاقة التي تربطنا بالمفكر والمثقف والأديب والكاتب هو المنتج الفكري وليس السلوك الشخصي.

يجادل بأننا نحن العرب فقط المهمومون بنصب الموازين لتقويم ومراقبة السلوك الشخصي للناس، ما عدانا لا يعير هذه المسائل بالاً، فالعلاقة بين المتلقي والمرسل هي «المحتوى»، وليس سلوك وعقيدة صاحبها...

في المجمل؛ هذا الكلام صحيح، نحنُ نتلقى العلم والأدب والفن من أي مصدر كان. لن نتوقف طويلاً عند السيرة الشخصية لأصحابها، إلا بمقدار ما يخاطبنا به أو يسعى لإشراكنا في محتواه.

لا أحد لاحق ميشيل فوكو في اختياره الشخصي للانحياز نحو المثلية، ولا في عقائده الفكرية، ولكن الصدمة فقط أن هذا الفيلسوف المؤثر جداً كان ينتهك الطفولة برؤية استعلائية استعمارية، المسألة كانت اعتداءً ثقافياً وليس سلوكاً شخصياً؛ في فرنسا يمكن لصبي عمره 15 عاماً أن يقيم علاقة عاطفية مع معلمته المتزوجة ولديها أطفال أكبر منه، ويصبح بعدها الرئيس ماكرون دون أن يدس أحد أنفه في خصوصياتهما... ولكن بالنسبة لفوكو: متى أصبح اغتصاب الأطفال وجهة نظر...؟

في القرن الثامن عشر أطلق الفيلسوف والمؤرخ الاسكوتلندي ديفيد هيوم «1711 - 1776» عبارة ظلت تلاحقه مئات السنين، رغم كل العبقريات الفكرية الناصعة التي أضافها للبشرية، قال هيوم: «آتوني بمثالٍ واحد على زنجي أظهر أدنى قدر من الموهبة!»... هذا الرأي العنصري قاد الجموع الغاضبة في أدنبره للإحاطة بتمثال هيوم في يونيو «حزيران» 2020، والتلويح بتحطيمه ضمن التماثيل التي ترمز لمفكرين من مخلفات تاريخ العنصرية والاستعمار، وهي الاحتجاجات التي واكبت مقتل جورج فلويد تحت ركبة شرطي أميركي أبيض في مينيابوليس الأميركية.

خذ مثلاً الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط «1724 - 1804»، الذي يُعد فيلسوف عصر التنوير، وترك تراثاً مهماً وخالداً في مجال حقوق الإنسان، لكن كتاباته التي يؤكد فيها تفوق الأوروبيين البيض والعرق الأبيض على باقي الأجناس البشرية، ما زالت تلطخ سيرته الفكرية.

خذ مثلاً الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون، الذي يعد أحد الآباء المؤسسين، والمنادي بحقوق الإنسان والديمقراطية، وهو الذي كتب إعلان الاستقلال، حيث تنص الفقرة الثانية «نحن نؤمن بأن كل البشر قد خلقوا متساوين»... هذا الرجل صاغ ووقع مشروع قانون يحظر جلب العبيد إلى أميركا، لكنه كان يمتلك 600 عبد، ولم يكن يرى أنهم لائقون للمشاركة في حق التصويت في الانتخابات أسوة بالسادة...!

ما يؤمن به أصحاب الرأي والمؤثرون شيء يخصهم، وكذلك سلوكهم الشخصي، لكن ما يطرحونه من أفكار ومُثل وقيم ومبادئ هي المشتركات التي تربطهم بالناس، يمكن للناس أن يتغافلوا عن رعونة ومجون أحدهم، لكن آراءه الجندرية والعنصرية والطائفية ومواقفه المعلنة ضد الحريات وانحيازه الفكري مع الظلم والطغيان واستعباد الشعوب، كلها تجعله في مرمى النقد والتجريح.

أخطأ صاحبي في اعتبار أن العالم العربي يُقوّم العباقرة على أساس سلوكهم الشخصي، ويمارس وصايته عليهم، الحقيقة أنه يُنصب شذاذ الفكر ومزوري التاريخ ومنظري القمع، ومروجي التفاهة، ودعاة الفتن، أصناماً مقدسة، لا تمس بالنقد ولا بالسؤال.

في الاحتجاجات ضد العنصرية بعد مقتل جورج فلويد، حطم المتظاهرون في الولايات المتحدة وأوروبا عشرات التماثيل لقادة ومفكرين تاريخيين عرفوا بمناصرة العنصرية، كانت تلك صحوة ضمير لمساءلة هؤلاء الذين تسطع نجومهم في سمائنا، وتنتصب تماثيلهم في وجوهنا: لماذا ساهمتم في تحطيم الكرامة الإنسانية...؟!