آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

الشُّرفة

فؤاد الجشي

وصلتُ إلى تلك الشُّرفة الواسعة مع وصول خيوط الشمس الذهبية إليها. سطع النور بداخلها، وانعكس على قطعة أثاث موجودة مُشَكِّلًا قطعًا ذهبيَّةً باهرة الشكل واللون، تشبه ذلك الأثاث الذهبيِّ من عصر بابل والرّومان. كان صباحًا جميلًا يُغلّفه الهدوء، والمكان قديم كما المبنى التراثي المليء بالنقوش والزخارف، تستطيع أن تُقَلِّب نظرك بين نقوش بارزة وأخرى غائرة، تراقص خيوط الضوء متمايلةً في دلال فريد!

تفوح رائحة التراث من كلّ شيء في هذا المكان، الكراسي مصنوعة من سعف النخيل، والستائر حريريّة كلون السماء. يمكنك أن ترى الباحة الواسعة أسفل الشرفة، تزيِّنها النوافير الممتلئة في كلّ جانب، يرتفع منها الماء قليلًا بتدرّج، محدثًا صوت خرير يصل إلى مسمعك في الشُّرفة. تجذب أعينك تلك الشرفات البعيدة أمامك في الاتجاهات الأربعة، كأنّها أحواض زرع من كثرة ما تدلَّى منها من نباتات خضراء باهتة. شعرت أنني مدعوٌّ إلى هذا المكان، وأنني قدمت من مسافة بعيدة لهذا الغرض، ربما هي دعوة من فنان تراجيدي مشهور.

اعتقدت أنّ هناك خطأً ما؛ قبل الاستدارة إلى الداخل، بدأ الماء يرتفع تدريجياً من جميع النوافير في رقصة سريالية جميلة بألوان مختلفة، كأنّها تُرحِّب بشخص قادم. سمعت شخصًا ما يقول: إحم. إحم. استدرتُ، نظرتُ إليها في مفاجأة القدر!

كانت الابتسامة تشقُّ ثغرها الصغير الوردي اللون في رقة وعذوبة، الهدوء ما زال طاغيًا، عينها القرمزية الناعسة بدأت تأخذ ألوانًا مختلفة، تجعل الناظرَ يسترخي إليها في لحظة صفاء وجمال لا نهائي، أنف صغير بين وجنتَيْن بارزتَيْن، شعر حريري تسلَّل على كامل جسدها، ولون الحرير الملتصق الذي ترتديه، يشفُّ تفاصيل جسمها الفوَّاح برائحة العطر الورديِّ، الذي لا يتسلَّل إلى أنفي فقط، بل إلى إحساسي.

أهلًا بكَ.

شعرت لوهلةٍ أنني أعرفها منذ زمن طويل! ظلَّت محافظةً على تلك الابتسامة الساحرة، كانت واقفةً خلفي بين الجالسين، على حافة الشُّرفة يوجد رجلٌ آخر طغت عليه علامات الوسامة، وزيَّنت مُحيَّاه ابتسامة، ولكنّه ظلَّ ينظر إليَّ دون أن يحدِّثني، لاحظت وجود كاميرا بيديه حين بدأ يلتقط لي بعض الصور وهي تقف خلفي، ارتأت أن تحتويني بيديها من الخلف أثناء التصوير، وهي أكثر دفئًا وابتسامًا.

كلّ شيءٍ يحدث بسرعة، لا أعلم لماذا أنا هنا! لا أعلم لماذا احتضنتني أثناء التصوير! شعرت أنني في عالم غير عالمي الواقعيِّ، كلّ دقيقة كانت تسعدني أكثر مما قبلها، سمعتها أخيرًا تتحدّث مع ذلك الرضيع ذي الأشهر الأولى الذي وجدتُه فجأة بين يديها، تتحدث معه بكلمات حنونة تنظر إليَّ. انظر إليه، أليس جميلًا.

انتهى المشهد حين قالت للرجل الوسيم: لنبدأ الآن تصوير قصة الحب التي عشتها مؤخرًا.

لا أعلم كيف علمت بها، ولا أعلم من أنا، ولماذا أنا هنا؟

استيقظت من نومي، قلت: إنه حلمٌ. حاولتُ مرّة أخرى الاستغراق في الحلم، لكن المشهد بدا مختلفًا.

بدأ ذلك الرجل بتثبيت الكاميرا من زاوية الرؤية بالصوت والصورة، نظرت لي قبل البدء وهي تبتسم وتنظر لي بشغف العاشق الذي عاد إلى حضنها، قال لي: سوف نبدأ، بدأت تتحدث في سؤالها وأنا أرى الوميض الأحمر من تلك الكاميرا، اعتدلت الجلوس ونحن ننظر إلى بعضنا، بعد الترحيب وضيافة المكان، شعرت بأنّ هناك موسيقى خافتة تبثّ رحيقها من الغرفة المجاورة، كانت القوى التي أضافت تحت السماء تنسكب رحيقًا.

- سيّدي، ما نظرتك للحياة؟

- تقصدين الآن أو قبل ثلاثين سنة؟ طبعًا الفكرة مختلفة، عندما يتقدّم الإنسان تزداد خبراته، يتفاعل مع الحياة بشكل مختلف.

- سيّدي، السؤال التالي يحتاج إلى أن تنظر إلى الكاميرا مباشرة، أريدك أن تصف الفرق بين الماضي والحاضر من خلال رحلة الحياة التي عشتها بصورة شاعرية.

نظرت إليها كشاعر، واستدرت إلى الكاميرا، تأثير الموسيقى كان حاضرًا. استحضرت ذلك الخيال، كنت على صخرة فوق التلال أرى البحر من مسافة، كان هناك فضاء فسيح العمق، كان خيالي متزامنًا مع فؤادي، أنظر إلى الأشياء كأنّها تحدث، جاء المنادي يقول: إنها تنتظرك، أين هي؟

أذهب إلى تلك الشجرة القريبة من البحر، تقدمت الخطا، لم يكن البحر هادئًا، أمواج تتلاطم ولكن الشجرة حافظت على الهدوء أمام الرياح، أخذت جانبًا من ظلال أنظر من جميع الأنحاء ربما تكون في انتظاري، جلست كالقرفصاء أنظر إليه بحنان الوادي الأخضر، أنظر إلى البحر بين ظلّ الشجرة الثابت، وضعت رأسي بين أرجلي المقرفصة، أتابع خيالي لبضع دقائق، ربما أجد الفقد الذي أنتظره، بصورة مفاجئة وقفت الرياح متزامنةً مع تلك الأمواج التي كانت طاغية قبل لحظات.

رفعت رأسي وعيناي ترقصان شاخصتين ترنوان إلى آفاق بعيدة، رأيت قارباً صغيراً لونه أبيض يتهادى على صفحة الماء، بدأ يقترب من السّاحل، له سارية صغيرة عليها علمٌ واحد لونه أبيض، يشعرك بالسلام. توقفت المجاديف، وقفت على رجلي تقدمت الخطا بكلّ هدوء، الأبيض كان ثوبها الطويل والهواء البارد أزاح جزءاً من حنين، أشرت إليها بأنني ضائع في التيه، تقدّمت أكثر مما توقعت، وقعت على صدري تشتكي الريح الذي أفاق روحها، قالت: أين الشُّرفة؟

أمسكت يدها حين وجدنا أنفسنا على الشُّرفة بثياب جديدة، نرقص بين السّحر والواقع، أضاءت الأنوار الموسيقية والنوافير السّحرية، قفزنا عاليًا بقدوم الوالي الجديد للقصر، بدأ حفل الرقص وانتصر الحب.