آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 5:35 م

السياسة وصراعات المثقفين

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

بعض الصراعات الثقافية لها جذور فكرية أو آيديولوجية، لكن أغلب تلك الصراعات مجرد مبارزات محتدمة، ولكنها موجهة لخلق اشتباك عميق وواسع يمتص طاقة الجميع، ويبعد أنظارهم عن قضايا أخرى.

بين القرنين السابع والثامن الميلادي، برزت ظاهرة أدبية، سرعان ما تلقفتها السياسة؛ الصراع بين الشعراء، بدأ تراشقاً بين القبائل لتعزيز مكانتها، ثم تحوّل إلى تطاحن بقوى ناعمة لتعويض عجز القبيلة العربية عن الركون لأساليبها التقليدية في حسم المنافسات عبر الحروب والغزوات... فقد جاءت الدولة لتبسط سلطتها وتحتكر السلاح والقوة، ولم يعد من وسيلة لتفريغ المشاحنات سوى القصائد والشعراء.

لقد وجدت السلطة السياسية، التي عصفت بدولتها الصراعات في المبارزات الأدبية وخاصة بين الشعراء وما تلاقيه من انتشار واسع، عبر شبكة الرواة، وسيلة جديدة لإشغال الناس، وإلهائهم، وهي نجحت في تعويم السجالات القبلية وأغراضها في الفخر والهجاء لتصبح عنواناً للحروب الإعلامية بين الشعراء، تجتذب الجمهور من كل الفرقاء. لهذا الغرض أنشئت سوق المربد في البصرة. وعلى عكس سوق عكاظ التي عرفت بإجازة الشعراء وعقد المصالحات بين القبائل، كانت المربد ساحة للخصومات والمبارزات وإثارة النعرات وتلاوة شعر «النقائض».

ومن بين أكثر من 70 شاعراً كانوا يتصارعون بأسماء قبائلهم في تلك الفترة، برز 3: جرير وهو أموي النزعة، والفرزدق وهو علوي الهوى، والأخطل وهو مسيحي تغلبي من الحيرة... هؤلاء وغيرهم كانوا أبواقاً إعلامية تذب عن قبائلها العربية، وتبني لها مجداً من المكارم الحقيقية أو الوهمية، وتقصف القبائل الأخرى وتحطّ من قدرها، ورغم أن جرير والفرزدق يعودان لأصل قبلي واحد «تميم»، لكن الفرزدق استعلى بجناح عالي المقام من قبيلته «مجاشع»، وظل جرير يكابد ضآلة حسبه وفقر عشيرته التي اشتغلت برعي الغنم والحمير.

في الحقيقة كانت حلقات الهجاء كما الفخر تتناقلها الركبان، وتسير بها في بلاد العرب، وكانت كل قبيلة تربي شاعراً ليذود عنها، ويحطم منافسيها، وكان الشعراء وهم صفوة الأدب والثقافة في زمانهم يشعلون نيران الأحقاد بين البيوت العربية، عبر حروبهم الإعلامية الموجهة، ولم يكن يجمع بين شتاتهم سوى الخضوع للمال السياسي الذي يغدق عليهم، ولذلك مثلما نبغوا في شتم بعضهم، وتمزيق أعراضهم، نبغوا في مدح السلطة ورجالها، وأسبغوا عليهم صفات الكمال وشمائل الكرم والفروسية والمروءة، وكان رجال السياسة يطربهم هذا التوجه، حتى إنهم يتغاضون عن التمايز الفكري بين الشعراء، فهذا الحجاج الثقفي يضم في مجلسه قطبي الصراع الثقافي آنذاك؛ جرير والفرزدق ليعقدا مباراة شعرية في مدح الحجاج، فاز فيها جرير، كما مدح الشعراء عبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، وغيرهم. قال جرير في عبد الملك: ألستُم خيرَ من ركب المطايا - وأندى العالمين بطون راحِ. وقال الفرزدق في يزيد بن عبد الملك: يا خير حي وَقَتْ نعلٌ له قدماً - وميِّتٍ بعد رسل الله مقبورِ - لو لم يبشِّر به عيسى وبَيَّنه - كنتَ النبي الذي يدعو إلى النورِ!

وفي معارك الشعراء بين الفرزدق وجرير، ازدهرت اللغة، لكن ضاع نصف قرن من عمر العرب في تراشق السهام وتحطيم كرامة بعضهم، هل يمكن أن تُنسى قصيدة جرير «الدامغة» التي حطّم بها كرامة قبيلة عربية انحاز شاعرها لخصمه الفرزدق، زاعماً أنه أشعر من جرير؛ حيث قصفه جرير ب «الدامغة» وفي أحد أبياتها: «فغضّ الطرفَ إنك من نميرٍ فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا»... ويقال إنه قال لغلامه بعد أن أملى عليه هذا البيت: «أطفِئ المصباح يا غلام، فوالله قد أطفأتُ ذكرهم مدى الدهر».

كان الشعراء في ذلك الوقت يغذون الصراع القبلي، مثلما يفعل بعض الشعراء والمثقفون اليوم، بنفس الأدوات، يحولون الثقافة إلى منصات لقصف خصومهم وتحطيم كرامة مجتمعاتهم... من أجل ماذا...؟ من أجل خلق انقساماتٍ عميقة يصعب ردمها أو اجتيازها.