آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

حرب.. قصة قصيرة

سهام طاهر البوشاجع *

وحيدا كان يسير في شوارع المدينة المقصوفة بصواريخ العدو والدخان الكثيف يتطاير فوق رأسه، ممزق الثياب، حافي القدمين، ونشيج بكاؤه يصم آذانه عن صوت بقايا سقوط المنازل، ولهب الحرائق المشتعلة بها، سار تائه لا يعرف أن يذهب جائع وخائف.

عبثا يحدق في أعين المارة التي كانت تركض في حركة عشوائية يمينا وشمالا متخبطة في مسيرة حركتها، لعل أحدا منهم ينتشله إلى أحضانه وإن اختلفت عن تلك التي كانت تحتضنه قبل ساعات من الانفجارات.

انتشر دخان كثيف في تلك اللحظة وما إن انقشع حتى ظهرت ”زينب“ وهي تصرخ هل رأى أحد منكم طفلا صغيرا يسير هنا؟

هل رأيتم طفلا يرتدي بلوزة زرقاء مخططة باللون الأحمر وبنطال أزرق كحلي صغير السن لم يتجاوز السنتين؟ أرجوكم ردوا علي أجيبوني!

سارت زينب على غير هدى في كل الاتجاهات تبحث لاهثة عن الطفل دون جدوى إلى أن أوقفها رجل كبير في السن بالكاد كان يجر قدمه المتأثرة جراء تلك الانفجارات وهو يتألم قائلا: يا فتاة أتبحثين عن طفل صغير بعمر السنتين أشقر الشعر أبيض البشرة، قالت: زينب نعم: أين هو هل رأيته فقال لها: نعم سيري بهذا الاتجاه فلقد رأيته قبل ربع ساعة يسير من هنا وأعذريني لعدم أخذي له لأنه كما ترين الكل مشغول بنفسه.

نعم نعم أعذرك، يا إلهي بحق أحب الخلق إليك ألطف به وبنا فهو طفل بريء لا ذنب له لا تجعل الدنيا تلحق به أذى أو ضرر فإن كانت أمه قد ماتت بين أنقاض جدران بيتها الذي سقط عليها وعلى كل من فيه كحال معظم بيوت المدينة فلربما أستطيع أن أنقذ هذا الطفل وإن كنت آخر أمل له في الحياة وإن لم أقرب له شيئا سوى أني كنت مارة بجوار منزلهم لحظة سقوط المقذوف عليه.

راحت زينب تتصفح الشوارع والأزقة بعينها الغارقة في الدموع وهي تتذكر بأنه لم يقصف منزلها بالكامل ولم تمت لأنه لحسن الحظ كنت في الخارج لحظة القصف وما أن أرادت العودة إلى منزلها إلا وقد وقع ما وقع ولهول الصدمة فقدت وعيها ولم تستيقظ إلا على صرخات أم وهي تستغيث بالمارة وتصرخ أرجوكم إنقذوا ابني.

وقد سألتها بعد أن هدأت من روعها: لا تجزعي يا أختي سأبحث لك عنه وسألتها عن مواصفاته.

هكذا كانت تعج في بالها الصور والأحداث إلى أن قاربت رجلا كان يمسك بيد طفل صغير له نفس المواصفات التي ذكرتها لها تلك المرأة وهي في لحظاتها الأخيرة قبل أن تفارق الحياة، فراحت تركض بأقصى سرعة مناديه: هيه أيها الرجل أنتظر.

فالتفت إليها الرجل ومعه ذلك الطفل فقالت: بربك أنزله فهو يخصني.

وما أن أنزله حتى أخذته بالأحضان وبدأت بالبكاء، هل كانت تبكي زينب لأنها وجدت ”عامر“ أم على الحرب التي أنهت كل من تحب أم على أنها لم تمت هي الأخرى أم على تلك المرأة التي ماتت وقلبها يعتصر ألما على صغيرها أم على المستقبل المجهول القادم لها؟

أم على ”عامر“ الذي أطلقت عليه ”زينب“ هذا الاسم كي تعرف أن تناديه كلما أرادت ذلك بعدما وجدته وحيدا لا أحد يعرف عنه شيء سوى أنه طفل لعمر سنتين أنهت الحرب كل معارفه ووالديه وكل ما يثبت أنه كان في يوم من الأيام موجود بين أحضان دافئة.

نحن لا نبحث عن الحزن أحيانا فهو موجود بين أنين الفاقدات ووجع الأيتام وقلق المارة بين بقايا البيوت المهدمة بآلات الحرب التي لا تنتهي ولا في قرن من القرون أو عصر من العصور، نحن لا نرسم المستقبل أخضر دائما فلابد للفرشاة أن تلون بعض منها ببقايا الألوان الموجودة على الألواح، وما أقساها من ألوان إن كانت قاتمة معتمة، تنذر بحذر وتوجس، لكنها واقع مرير تفرضه صراعات الدول المتنازعة على أي شيء ويحصده الإنسان الذي يعيش في تلك الدول.

كاتبة ومحررة في صحيفة المنيزلة نيوز