آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

ما بعد التطرف الديني: أسئلة العقلانية والتسامح عند الشيخ حسن الصفار

جهات الإخبارية بقلم: السيد عبدالحميد الحسني

مقدمة:

هذا الكتاب لبنة من لبنات مشروع إصلاحي تجديدي متكامل ومتواصل بإتقان وإحسان، راصدا كل معالم الوعي الديني السليم والنقد البناء، والتنمية الاجتماعية والمناهج الفكرية والعلمية في فهم القضايا الدينية، حيث نستشف من مقدمة الكتاب ما يعلن عنه المفكر الإسلامي الشيخ حسن بن موسى الصفار، محاولا توجيه فكرة الكتاب العامة ضمن السياق المنهجي لتفكيك الظواهر الاجتماعية وتحليل جذورها ومقاربة حلول لها..

العقلانية والتسامح «نقد جذور التطرف الديني»، كتاب يندرج ضمن حقل الدراسات النقدية السوسيوثقافية في الفكر الإسلامي المعاصر، يقع في 245 صفحة من القطع المتوسط، عن دار أطياف للنشر والتوزيع بالمملكة العربية السعودية الطبعة الأولى سنة 1439 هـ - 2018م، ويعتبر مقاربة وصفية نقدية جديدة حول ماهية التسامح على ضوء الرؤية العقلانية للواقع والمساءلة النقدية لأبعاد الظواهرالسوسيوثقافية ذات العلاقة بالتفكير الديني وتأثيراتها على الوعي والالتزام الدينيين للأفراد والمجتمعات، لأن الشيخ الصفار سبق له أن بحث وناقش عنوان التسامح في أغلب إشتغالاته الفكرية ومؤلفاته التجديدية ومحاضراته الثقافية، إذ لا تكاد تخلو محاضرة أو مقالة لسماحته من الإشارة أو التنبيه لقيمة التسامح ومتوالياتها، كما أنه يعكس من خلال هذا التأليف ثنائية جدلية متجددة أمام تيارات الفكر الإسلامي تؤصل مدى ارتباط القيم الدينية بمفاعل العقلانية ضمن المنطق الإسلامي العام، وأهمية الكتاب تكمن في كون المفكر الإسلامي الشيخ حسن الصفار شاهد ومؤثر في مسارات الفكر الإسلامي المعاصر سواءا بمنجزه الفكري أو نشاطه الثقافي عبر العالم الاسلامي وإسهامات الاجتماعية في مجتمعه الصغير ووطنه الكبير، مما يستدعي قراءة حصيفة لمضامين الكتاب الذي هي في الأصل محاضرات عاشورائية لسنة 1439 هـ  تعكس تفاعل إستراتيجي مع جواهر الحركة الإصلاحية للإمام الحسين الشهيد ، وضرورة تطوير الخطاب الديني بما يتناسب وتحديات الراهن ورهاناته.

مقدمة الكتاب اختزلت جميع مسارات الفصول وافكارها الأساسية لتشكل صورة عامة حول الكتاب تثير نهم المعرفة لدى القراء والباحثين وذوي الاهتمام بالشأن الثقافي الإسلامي عموما وبظاهرة التطرف الديني في أبعادها الفكرية الثقافية وما هنالك من تمثلات لها في ابعاد الحياة الاخرى وتمهيد لتفكيك بنية التطرف فكريا ونفسيا مهدد ثقافي - إجتماعي عبر المجال العربي والإسلامي، مع بعث اضاءات ومقاربات لتجديد الفهم الديني على ضوء مرجعية العقل والدعوة لإعتماد العقلانية والتسامح نهجا في الاختلاف والتفاعل والعلاقات الإجتماعية..

في حين جاء الفصل الأول من الكتاب ليطرح رؤية نقدية حول الخطاب الديني، حيث استعان في ذلك بمطارحات تجمع بين علم الاجتماع الثقافي وفلسفة التشريع الإسلامي، وفق قراءة تحليلية للمفاهيم والواقع والآفاق والآداب والأخلاق والمقاصد، تنظر قيميا لكل حقل منهجه ونسقه بموضوعية علمية في دراسة ظواهر نفسو - اجتماعية تتصل ماهية الخطاب الديني وأهدافه وتأثيراته على المجتمع ضمن معادلة ضوابط مسؤولية الخطاب ضمن التصور الإسلامي.

وكان الفصل الثاني وليد هاجس شعبوية الخطاب الديني غير المسؤول، حيث سعى فيه الكاتب إلى عرض للجهد العلمي في مقاربة ظاهرة التطرف الديني، وما شابها من نزعات عبر التاريخ. حيث استعرض التطرف الديني في التاريخ الاسلامي وفي الدين اليهودي والمسيحية المتطرفة ونموذج الهند بتنوع دياناتها، ليعرج على أعراض التطرف التي من خلالها يمكن تشخيص هذا المرض الخطير على الأفراد أو الجماعات والمجتمعات، مستكملا منهجه التحليلي النقدي بتكوين رؤية وصفية للعوامل والأسباب المركزية في تشكل ظاهرة التطرف الديني والتي اختصرها في أربعة أسباب جوانية وعوامل خارجية، مقترحا منهج التحصين الإيماني والأخلاقي للشباب من خلال الاستثمار الأمثل للمواسم والمناسبات الدينية مثل الموسم العاشورائي عبر التبشير بنهج الإعتدال والتسامح والتعايش السلمي.

هذا الفصل من الكتاب يعكس مدى اهتمام الشيخ حسن الصفار بالراهن الإسلامي قدر تفكيره في مواضيع العقلانية والتسامح ونبذ التطرف وأسبابه، داعيا لصناعة وعي علمي بالدين ومقتضياته، وهذا ديدنه في إتجاه نقد الظواهر والسلوكيات بنقد تشخيص الأسباب ونقد المناهج التي تقارب تلك الظواهر الخطيرة وتستقطب الشباب نحوها، مستهدفا بنقده عدم استفحال ظاهرة التطرف الديني ومتوالياتها الخطيرة من خلال رصد إشكاليات ومشكلات العلاقة بين الإنسان والدين، وهذه هي الفكرة الرئيسية في جل الأعمال الفكرية والثقافية النقدية لدى الشيخ الصفار، والتي تقارب الفوارق الجوهرية بين منظومة الدين والمطاردات التي يعتمدها الغلاة والمتطرفون في مقارباتهم ذات الجذور النفسية والثقافية والعوامل الخارجية والدوافع المصلحية في البيئات العربية الإسلامية التي تمثلت الأحادية الفكرية وملكية الحقيقة المطلقة والإرهاب الفكري والتسقيط الممنهج الآخر والمختلف وفق منظور أصحابها.

خصص الشيخ الصفار الفصل الثالث لبحث عام حول مفهوم التكفير واهم اتجاهاته في التراث الديني لبناء معرفة شاملة ودقيقة حول التطرف الديني من خلال تفكيك عنوان التكفير، لينتقل في الفصل الرابع بأنموذج تقريبي متداول لدى كل دعاة التطرف ونتيجة آلية لمظاهر التكفير والمتمثل في احتكار الجنة، عبر تسليط الضوء على مفاعيل احتكار الجنة من خلال مناقشة حديث الفرقة الناجية الذي عزز الفرقة والتكفير والتطرف بين الطوائف الإسلامية والذي يعتمد امتداد طوليا في مسارات الأديان بحسب رواياته المتعددة، للوقوف على أهمية تعزيز النزعة الانسانية والوحدوية بين المسلمين عبر نهج التسامح والتقارب.

في الفصل الخامس يواجه الشيخ الصفار وبنهج تنويري فريد القارئ بحقائق التاريخ الراقية والنماذج الإيجابية للتواصل بين المسلمين على الرغم من اختلافاتهم المذهبية والعلمية وما هنالك من تنوع وتعدد، كما يقارب لوعي ثقافة التواصل عبر قراءة لتجارب الآخر المسيحي وتواصل مذاهبه رغم الاختلافات العميقة بينها، ثم يأخذنا إلى خلفيات الممانعة وعدم التواصل بين الاطياف الإسلامية، مؤكدا على دور الجمهور في تمكين ثقافة التواصل والتقارب بدلا عن سياسات التنافر والتطرف والتباعد..

ويقف الكاتب في الفصل السادس من الكتاب عند عتبات حدي الالتزام الديني المرونة والتشدد عبر دراسة بواعث ظاهرة التشدد الديني ومظاهره عقيديا وعباديا وفي الاحكام وتجاه الناس من خلال وعي التشريع الإلهي ومقاصده وتفنيد كل مسوغات التساهل والتمييع بخصوص الإلتزام الديني من جهة وتبيان حقيقة المرونة والواقعية في هذا التشريع ونهج الاعتدال والتسامح المنصوص عليه إسلاميا لكنه مغيب في الخطاب الديني كمبدأ وسمة رئيسية رغم تنويه الكتاب العظيم والسنة الشريفة..

وتبدو متانة الكتاب في الفصلين السابع والثامن، من قدرة صاحبه على استدعاء المواضيع المختلفة التي تؤسس لنهج العقلانية والتسامح في قبال خطورة التطرف الديني، دون طرحها بأسلوب إشهاري وإنما عبر عرض المبدأ الإسلامي الأصيل حتى يطمئن القارئ ويكتشف الحقائق عبر تأصيل الإختلاف فهما وتفكيرا وإدارة، ثم يأتي فضح زيف ادعاءات أصحاب نهج التشدد والتطرف دينيا عبر السعي إلى تركيز الوعي بمحاولات تهميش العقل في الحالة الدينية واستغلال المشاعر الدينية وتزييف الوعي عبر خدش التلازم بين الدين والعقل، وهذا أيضا يعكس جرأة الشيخ الصفار النقدية وتحمله لمسؤولية الخطاب الديني المثمر للوعي والحكمة والموقف والتطلع ذو النزعة الانسانية والحضارية وفق الرؤية الإسلامية السليمة، وهذا سر تميز خطابه، وعمق نظره وقوة استشرافه للأمور والمشاريع كلها..

كما تبدو أهمّ رهانات الكتاب الإصلاحية في الفصل التاسع بحثا عن الحقيقة الدينية في التراث الإسلامي وعلاقتها بالواقع أو الراهن، فتصطدم رهانات التسلط والاحتكار، بحثا عن الشرعية الدينية في سوق الاختلاف المذهبي بحقائق إنسانية حضارية، حيث يحدد الشيخ الصفار المدخل عبر الطريق الشرعي في فهم واقعة الطف الكبرى، باعتبارها ذروة مركزية لوحدة الأمة، تؤسس لخيار جوهري استراتيجي في مسار عقلانية الإلتزام الديني، كما أن تداخل الجوانب العقائدية والإيديولوجية حولها، قد يولد التطرف والتشدد والتكفير في خط الصدع بين المذاهب، مما يتطلب بديلا شرعيا عن الصدام والتقاطع يتمثل في التسامح، الذي اصطبغت به كل سير النبي الأكرم والأئمة الأطهار، ليختم المؤلف سماحة الشيخ حسن بن موسى الصفار هاجسه الأول والأخير هو استفحال العنف الحقيقي والرمزي وانغلاق الأطياف الإسلامية على بعضها البعض، محذرا الشباب المسلم من الانزلاق في متاهات العنف والتطرف الديني، مرشدا إياهم للتفكر في نهج الإمام الحسين وثورته الإنسانية الخالدة التي ألهمت عظماء عبر التاريخ بأن اللاعنف نهج التقدم والقوة والنهضة ويمكنهم العودة لآثار أعلام الأمة من العلماء والفقهاء الذين أصلوا وفصلوا وحذروا من مهلكات العنف ومشتقاته من تطرف وتشدد وتكفير وإرهاب وأكدوا على العودة إلى علماء بلدانهم..

وقد حاول الشيخ الصفار تطبيق المنهج التحليلي التاريخي، فرصد أهمّ الشواهد عن الإلتزام الديني القيمي التي شهدتها النهضة الحسينية من الخطاب الحسيني العظيم والمواقف البطولية لأصحابه وإخوته وأولاده، ترسيخا للقيم الدينية في الفكر والعمل والتطلع سعيا إلى تركيز تلك الشرعيّة على أرضية الواقع الإسلامي، نحو تحصيل رأس مال شبابي يتسم بالعقلانية والتسامح واللاعنف.

عطفا على ما تقدم، يعتبر هذا الكتاب لسماحة الشيخ حسن الصفار إضافة نوعية للمكتبة الفكرية والعلمية الإسلامية لبحثه إحدى الظواهر الخطيرة والمهددة للأمن الإجتماعي والوعي الثقافي للأمة الإسلامية بجميع أطيافها، حيث يشكل قراءة جديدة جريئة ومسؤولة لا في التعامل مع التراث الإسلامي فقط وإنّما في التعامل مع الواقع ومشكلاته التي صارت تتجلبب بالمقدّس، ففي الكتاب وصفة علاجية مبسطة لداء التطرف واجتثات لجذوره بالتي هي أحسن، كتاب يهدف للعبور بقوة العقلانية الإسلامية نحو فعل التسامح والتواصل والتقارب، دون أن يشعرك بوجود فصل بين المستويين، حيث يتقن الكاتب كعادته بين استدعاء الأفكار الحية والشواهد المهمة والنماذج الخلاقة؛ وبين الحفر في طبقات التخلف والجمود والرجعية والاستبداد في الواقع، كما ان الكتاب يختزن مراجع ثقافية وأبعاد معرفية، ونظريات علمية من شتى المجالات مما يعكس فن الانفتاح والتعارف والتواصل في منهجية الكاتب وخطابه الثقافي الراقي.

يبقى أن يجد هذا الكتاب طريقه إلى الترجمة للغات أخرى ليعكس الخطاب الإسلامي الحقيقي لدى الآخر المسلم وغير المسلم ويكون مادة ثقافية مهمة في حوار الثقافات، كما نأمل من الأكاديميين والباحثين اعتماد كمرجع علمي غني بالمطارحات والرؤى الناهضة بالوعي والتقعيد القانوني لتجريم العنف بشتى تمثلاته خاصة التطرف الديني والتشدد اللذان يفضيان للتكفير وما هنالك من إنحرافات ثقافية واجتماعية بغطاء ديني، كما نأمل أن تناقش محتويات الكتاب في ندوات للتوسع أكثر في المحاور والآفاق، شاكرًا العلامة المفكر الإسلامي الشيخ الدكتور حسن بن موسى الصفار على نتاجه الفكري الملهم ونشاطه الثقافي الاجتماعي العام.