آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

ظاهرة الإقبال الجماهيري على الكتاب

محمد الحرز * صحيفة اليوم

لقد تعلمنا أو لأقل أن ما درجنا عليه في التربية الثقافية وذاكرته، أن الكتاب يرتبط بالنخبة المثقفة، وهذه النخبة تملك صفاتها الواضحة المحددة والمعلومة عند الجميع أو أغلب الناس، وأن مجرد حضور الكتاب في سياق الأحاديث والكلام سواء كان بين الأصدقاء، أو في جو ثقافي أكان ذلك في مجلس عام أو متخصص أو مقهى، فإنه سيتبادر في ذهن أحدهم ويقول: هؤلاء هم النخبة الذين لا يملكون من حصاد الدنيا سوى الكتاب وهمومه، وكأنما هناك حلف قوي لا ينفك بينهم وبين الكتاب.

الخروج بهذا الانطباع عند الكثيرين هو أمر طبيعي، كون العلامة الفارقة، من بين علامات أخرى للمثقف عن غيره، كما هو معروف، هو ارتباطه الشديد بالكتاب وعوالمه وهواجسه، وهذا هو السائد بالنهاية.

لكن الإقبال الجماهيري - هذه السنة - على معرض الكتاب الدولي بالرياض، الذي تجاوز أكثر من مليوني زائر، وكانت حصيلته المبدئية في شراء الكتب قد بلغت أكثر من ثمانين مليون ريال، قد حول العلاقة القائمة بين المثقف والكتاب إلى انحلال وتفكك وانحسار، ومن ثم أصبحت في طور إعادة صياغة العلاقة من جديد، حيث أفضت إلى علاقة بديلة قائمة بين الكتاب والجمهور، وأصبح الكتاب يوضع في سياق مختلف عن سابقه، كما هو في السنوات الماضية، حيث يمتاز فيه «أي الكتاب» بخضوعه التام للقيمة الجمالية، التي تفرضها ماكينة الإعلام الجديد مثلما عليه الحال في السوشيال ميديا على سبيل المثال، وهذا الخضوع هو الذي يحكم تلك العلاقة الجديدة ويوجهها.

لكن دعوني أوضح المقصود من الخضوع؟ والمقصود من القيمة الجمالية المتصلة بالإعلام الجديد؟

لقد انتقل الكتاب من سياق إلى سياق آخر، من سياق الندرة إلى سياق الكثرة، وهذا يعني قدرة الكتاب على التواجد في أي مكان وفي أي وقت وبسهولة مطلقة، ودائما ما يكون تحت الأنظار، ومحط الاهتمام، وأن يكون مرئيا بوصفه قابلا للتسويق الإعلامي والترويج الدعائي. أي دخوله ضمن نطاق عولمة كل شيء في حياتنا اليومية، وهذا يعني أن قيمته لم تعد مثلما كانت عليه في العلاقة السابقة، صادرة من حاجة الإنسان الداخلية، ونابعة من الاحتدام والصراع مع الحياة والعالم، بل أصبحت قيمته في سياق علاقته بالجمهور أشبه بالموضة، التي يقع الجمهور تحت سحرها، وتحت تأثيرها الإعلامي الترويجي، وهذا ما يجعل الكتاب عرضة لتقلبات الموضة السريعة غير المتوقعة، وكل قيمة بهذا المعنى تكون اختزالية، والإشهار هو غايتها الوحيدة وهدفها المضمر، بينما ما وراء ذلك من المعنى الحقيقي في وجود الكتاب في حياة الفرد، وموقعه من اهتمامه، والتعبير عن هذا الوجود بما يسمح أن يكون جزءا من رؤية الإنسان للحياة والكون. كل ذلك لم يعد له وجود في تلك العلاقة الجديدة القائمة بين الكتاب والجمهور.

صحيح أن مثل هذا الكلام لا ينطبق على جل الجماهير ولا على الذين رأيتهم مرأى العين - من فتيان وفتيات - يناقشون أصحاب دور النشر في هذا الكتاب أو ذاك بشغف كبير، تظهر على ملامحهم ووجوههم بسعادة مطلقة. وصحيح أيضا أن هؤلاء بشغفهم ومحبتهم للكتاب لا أظن أنهم يتحركون تحت تأثير موجات الموضة وسحرها الإعلامي.

لكن الصحيح أيضا أن مثل هؤلاء في وجودهم لا يمنع من وجود ظاهرة الكتاب باعتباره موضة.

فالكتاب بالنهاية عبر تاريخه كان وما زال نخبويا مهما كان نوع الكتاب ومجاله. وبالتالي مسألة الإقبال الجماهيري ينبغي أن تخضع لتلك الاعتبارات وتقرأ ضمن نطاقه، بعيدا عن حساب المكاسب، التي نجنيها في ساحتنا الثقافية من جراء هذا الإقبال.