آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

المجتمعات والأنماط الغذائية الراسخة

حسن المصطفى * صحيفة الرياض

”يرحم والديك أبو علي، ابتعد عن الاستفزاز المجتمعي، الأكل رب العالمين عبر عنه بالطيبات، تبي الناس تتحكم بمشاعرهم عنه“.. كان ذلك تعليقا وصلني من صديق عزيز، حول مقالي ”المستشفيات وأهمية بناء ثقافة غذائية سليمة“.

الصديق الذي دائماً ما يحب مزج تعليقاته بين الجد والفكاهة، قلت له إن ”الصحة أكبر النعم“، فقال ما نصه ”صدقت، صدقت، هي أفضل النعم“.

في رسائل صاحبنا إشارة مهمة، التقطها حول حساسية المجتمع من نقاش الموضوعات التي تتعلق بحياته اليومية، أو تلك التي يعتبرها جزءاً من ثقافته وعاداته وسلوكه، بل هي ركنٌ أساسي في متعته وبناء علاقاته ك ”الطعام“.

الغذاء بالنسبة للناس ليس مجرد وقود يستخدمه الجسم للبقاء على قيد الحياة والقيام بالعمليات الحيوية، بل هو عنصر يحضر في الثقافة الدينية، كجزء من الطقس في أكثر من مناسبة كالأعياد والأضحية، كما جرى ذكره في العديد من النصوص، سواء في الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، أو حتى الأديان والطقوس لدى الشعوب القديمة، كقربان للرب، وطاردٍ للأرواح الشريرة، ومائدة تقدم شكراً وعرفاناً وطلباً للرحمة، وهنا تكون مائدة الطعام أو الأضحية طريقاً للطمأنينة النفسية وإحراز رضا الإله، كما في سلوك العديد من الثقافات الدينية البشرية.

الطعام أيضاً تعبيرٌ عن الفرح أو الحزن، كما في حفلات الزواج أو مراسم تأبين الموتى.

أثناء الإنجاز، تفرح المجتمعات عبر احتفالات يكون الطعام والشراب عنوانها، فمن دون وجود موائد عامرة بالحلويات والأغذية المنوعة، والعصائر، لكن يكون الحدث مكتملاً.

الأكل أيضاً إعلان عن القوة، القدرة على هزيمة الآخر، التفوق عليه، كما في المفاخرات بين مائدة وأخرى يقيمها متنافسان. هو كذلك جزء من التنافس في مسابقات يجريها الشُبان، أيهم يأكل أسرع أو يتناول كمية أكبر، ليصفق له الجميع في الخواتيم معلنين فوزه.

عندما كنا صغاراً وشباناً مراهقين، أتذكر حين نذهب إلى إحدى حفلات الزواج، ولا تكون فيها وليمة غذاء أو عشاء، ننظر لها باستهجان. وعندما كنا نجلس على المادة، نأكل الصحن الأول، يتلوه الثاني، ومن ثم الثالث، كُنا نتفاخر كلما زادت أعداد الأطباق الكبيرة التي تناولناها، لأن ذلك دليل على مقدرتنا الجسمية والصحية على الأكل بكميات تفوق الأقران.

حتى في المدارس، كان الغذاء يحضر كجزء من ثقافة ”العقل السليم في الجسم السليم“ - نظرياً - وأيضاً كإشارة على ثراء الطالب وأنه يستطيع شراء العديد من الشطائر والحلويات والمشروبات الغازية.

لقد كُنا نقود أجسادنا بطريقة غير صحية، نحو السمنة، الأمراض المزمنة، خطر الإصابة بالسكري وضغط الدم، وذلك بسبب ثقافة المجتمع الذي يرفض أن يُمس بغذائه.

الآن أيضاً، صار الطعام جزءاً من ”الهوية“ و”الحنين إلى الماضي“، وكثرت المطاعم ”الشعبية“ التي تُعلي من شأن أكل ”زمن الطيبين“. هو نوع من الحنين إلى ”الحضن الأول“ من جهة، إلا أنه تسويق ذكي يربط الإنسان لا شعورياً بأطباق تمثل له أجواء عائلية يفتقدها في الوقت الحالي. هذا الربط يدفعه نحو مزيد من الشرهِ والإصابة بأمراض السمنة ومقاومة الإنسولين. من هنا، بالفعل إنه أمر صعبٌ للغاية أن تغير من ثقافات وعادات الناس الغذائية ونظرتهم للطعام ومفهومه، لأنه ذلك يرتبط بعدة عوامل: اجتماعية، نفسية، اقتصادية، ثقافية، ذهنية.. ويذهب تأثيره أكبر مما يعتقد الناس في تحكمه بهرموناتهم وما يحدثه من إدمان مرضي، لا يقلُ خطراً عن إدمان المواد المخدرة والكحول؛ ولذا فإن نقد الثقافة الغذائية للمجتمع هو بنظر السواد الأعظم، خطر أحمر، وأحاديث من أناس معاتيه أو مثاليين، عليهم ألا يمسوا بقرتنا المقدسة!