آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:31 ص

كيف يكتب الفلاسفة؟

محمد الحرز * صحيفة اليوم

تحت هذا العنوان جاء هذا الكتاب «وهو صغير الحجم لا يتجاوز 200 صفحة، من القطع الصغير» المطبوع في دار شهريار 2021، والذي يضم بين دفتيه مجموعة من الحوارات مع أبرز المفكرين والكتاب والفلاسفة المؤثرين في العالم الراهن، والذين بلغ عددهم سبعة عشر مفكرا ينتمون إلى شتى الفروع والتخصصات المعرفية والأدبية، من بينهم جاك ديريدا، ريتشارد رورتي، جودت بتلر، ستيورات هول، سلافوي جيجيك، جان فرانسوا ليوتار، كليفورد غيرتز، سبيفااك، وآخرون.

وكان محور الحوار يدور في مجمله حول الكتابة والمفاهيم المتعلقة بها كالأسلوب واللغة والمتلقي والمجال المعرفي المؤثر على تصوراتنا للكتابة، والتقاليد المتبعة عند كل مفكر في إنتاج الكتابة، وأنواع الكتابة إن وجدت، ما دور الكتابة، ما وظيفتها، ما موقعها في خطاب كل مفكر من حيث التجديد؟

وكان السؤال المركزي الذي يطرح عليهم هو: هل تعد نفسك كاتبا؟ أو بصيغة أخرى مقاربة له: هل تفكرين في نفسك ككاتبة؟ أو: بأي طرق تفكر في نفسك ككاتب؟

ومن خلال تداعيات إجابة هذا السؤال، تنفتح أسئلة أخرى تتصل بالمجال المعرفي الذي يشتغل عليه المفكر نفسه، فمثلا عندما سئل أستاذ الأدب الأمريكي والبريطاني في جامعة هارفارد الهندي الأصل هومي بابا «والمعروف باشتغالاته في مجال نظرية ما بعد الاستعمار»: هل تعد نفسك كاتبا؟ وأجاب بالإيجاب.

ثم سرعان ما انتقل في إجابته إلى الأثر الذي تركته ممارسة كتابة القصائد القصيرة، منذ كان طالبا جامعيا، على اشتغالاته الفكرية النظرية لاحقا، حيث خلص من هذا الأثر إلى قناعة راسخة من جهة، وإلى عادة يمارسها قبل الدخول في أي مغامرة للكتابة من جهة أخرى.

فالقناعة عنده هي «يجب أن تشكل الفكرة البلاغة وتفعلها» أي كما يقول «لا يوجد هناك مفهوم يمكنه أن يوجد في استقلال ووضوح تام إذا كانت الكتابة محبوكة من حيث الصنعة وغير متقنة من حيث الإبداع».

لذلك فهو يستعمل الكلمات ذات الإيحاء القوي التي تحتوي الفكرة نفسها وتتجاوزها إلى قوة التأويل وعمق الإحساس. وقد ارتبطت هذه القناعة عنده بمفهوم الكتابة عند الروائية «توني موريسن» التي قالت له «الكتابة هي كل شيء» وكأنها تقول له: ما دمت ترى الكتابة فعل مقاومة ضد المهمشين، واشتغالاتك مبنية على هذا الأساس فإن الكشف عن خطورة سلطة اللغة وهيمنتها على هؤلاء ينطلق من إعطاء الكلمات قوة المعنى وجدتها، بحيث تصل إلى هؤلاء أنفسهم أفكار وتصورات جديدة بعد تفكيك هذه السلطة، وبالتالي تحررهم من هيمنتها وسلطة القائمين عليها.

بينما الممارسة التي لا تنفك ترتبط بهذه القناعة عنده هي البدء بقراءة الشعر عندما كان ينوي الدخول في أجواء الكتابة النظرية، وعلى الرغم أنه لا يوجد رابط بين المجالين، إلا أنه بالنسبة له أصبح طقسا متلازما مع الكتابة ومع فكرته عنها من العمق، وكان الشاعر أودن هو أحد الشعراء المفضلين لديه.

إن طريقة إجابته عن السؤال نفسه أثارت عند محاوريه سؤالا يتصل بعمق اشتغالاته، ماذا عن مفهوم التعبير الجامع المانع المستعمل في خطاب السلطة؟

بعد أن يكشف عن تاريخ هذا التعبير وارتباطه ببلاغة السلطة ومؤسساتها، وأنه لا يكمن وراء هذا التعبير أي معنى للتواصل بين الناس أو أنه يمثلهم. يخلص على أن اللغة ينبغي أن تمثل الناس بطريقة واضحة، لا أن يسجنوا في «شكل لغوي معين».

الذي استعرضناه هنا في هذه المقالة هو نموذج واحد يدلل على طبيعة الحوارات في الكتاب، وطبيعة مساره، إذ يتضح لنا أن كل فيلسوف عندما يجيب عن السؤال ذاته نخرج بتصور عن الكتابة لا يتقاطع مع البقية حتى لو رأينا أن الفلسفة في خطوطها العريضة تجمعهم في فضائها، وهذه لها دلالة كبرى عندنا، نتناولها في مقال آخر.