آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 9:19 م

الخطر وعدم اليقين

هادي آل سيف

قبل الولوج في شرح مفهوم الخطر وعدم اليقين/عدم التأكد Risk and uncertainty، سأطرح التساؤلات الجدلية التالية هل المستقبل بالنسبة لك يقيني Certain أي غير قابل للشك؟ أم أن شكل المستقبل بالنسبة لك غير يقيني Uncertain وغير مؤكد؟ هنا لا أستثني عنصر التخطيط وقدرتك على التنبؤ واستشراف المستقبل، ولكن بصورة عامة هل لديك كل اليقين في صورة وشكل المستقبل؟ هل تعرف يقيناً ما أنت فاعل بالمستقبل؟ رغم كل ما يحمله المستقبل من الإمكانات والاحتمالات، هل يمكنك التنبؤ بدقة عما قد يجلبه المستقبل من أحداث؟ حسناً لنقلل مستوى التساؤل قليلاً، ما هي احتمالات نجاح فكرة مشروعك الجديد؟ في حال نجاحه، ماذا سيعود عليك من وراء ذلك؟

واحدة من الأمور التي تواجهنا في الحياة الشخصية والأعمال هي أننا في كثير من الأحيان لا نستطيع معرفة الإجابة على مثل هذه الأسئلة أو بشكل أدق لا نعرف الإجابة مقدماً. بالتالي تُبذل الكثير من الجهود في تقليل حالة عدم اليقين. هناك نوعان من الإشكاليات في هذا الشأن، الأولى هو أننا غالباً لا نفهم عدم التيقن بشكل جيد. والثانية هي أن كثير من الفرص المربحة لا تتواجد إلا عندما تكون النتائج غير مؤكدة وغير متيقن منها حقاً.

وجود ”عد اليقين“ هو عنصر لا مفر منه للوجود الإنساني، لا يمكن للناس معرفة ما قد يكتشفونه في المستقبل، ومع ذلك فإن الاكتشافات المستقبلية قد تشترك في تحديد ”مردود“، ”عوائد“، أو حتى ”عواقب“ قرارات اليوم وتشكيل الأحداث المستقبلية ذات الصلة بالقرارات التي نتخذها اليوم. هناك ”تيقن“ واحد فقط يحظى بالاحترام لدي الناس فيما يتعلق بالمستقبل هو أنه قد يكون مفاجئاً، إن عدم التيقن هو خاصية متأصلة في المستقبل. وجود عدم اليقين يؤدي إلى تعزيز الثقة في حسابات وتوقعات الناس الشخصية وفي اتخاذهم للقرارات. الثقة تؤثر على قراراتنا ونتائج قرارتنا، الثقة Confidence طبيعتها ذاتية Subjective لا تعتمد غالباً على المعرفة حول المستقبل، هي في أحسن حالاتها تتمحور حول الماضي والحاضر.

عند الحديث عن المستقبل أو بشكل أوسع طبيعة المستقبل The nature of the future فلا يمكن للبشرية أن تنظر إلى مستقبل المجتمع Society على أنه محدد سلفاً، وموضوعياً ينتظر منا اكتشافه. لا يمكن التنبؤ بالمستقبل بشكل دقيق على الأقل من عموم الناس، ولكن يمكن للناس تخيل أو تصور Imagine المستقبل وتكوين توقعات ذاتية Subjective expectations حول المستقبل، وعلى أساس هذه التخيلات أو التصورات Imaginations والتوقعات Expectations يتصرفون ويتفاعلون. بغض النظر هل يخلق المستقبل مفاجآت إيجابية أو سلبية على حد سواء، وكيفية التعاطي والاستجابة والتكيف معها تتفاوت من شخص لآخر، لذا في مواجهة عدم التيقن في المستقبل نقول بأنها عملية مستمرة Continuous process دون نقطة نهاية معروفة Knowable end point أو حتى نقطة توازن Equilibrium معروفة.

تمثل الطبيعة والسلوك البشري أكبر مصدر لعدم اليقين Uncertainty في المستقبل، حيث لا يمكن التنبؤ بالسلوك البشري على نطاق واسع بدقة ومهما تحسنت النماذج الرياضية وتعقدت المعادلات الرياضية وتطورت تطبيقات الاقتصاد القياسي. على سبيل المثال، الأزمة المالية العالمية في عام 2008م، لم يكن يتصور أحد أبداً أن ذلك الجزء من التمويل العقاري المسمى ”قروض الرهن العقاري عالي المخاطر“، والذي لا يشكل إلا حصة ضئيلة في النظام المالي العالمي، قادر على خلق هذه السلسلة المتتالية من التفاعلات التي دفعت بالاقتصاد العالمي برمته إلى حافة الإفلاس. وترجع صعوبة التنبؤ بمثل هذه الأحداث إلى طبيعة النظام المالي العالمي نفسه الذي يتسم بالتعقيد Complexity ونقصد بالتعقيد هنا هو وجود الملايين من شبكات العلاقات المتداخلة التي تربط بين المقرضين والمقترضين والتعاملات في الأسواق المالية والشركات والأفراد في جميع أنحاء العالم، هذا بالإضافة إلى أنه قد يترتب على معاملة مالية بسيطة في أحد الأسواق ردود أفعال كبيرة لا تتناسب مع حجم العملية الأولية «تذكر أثر الفراشة Butterfly effect» ويعني هذا أن سلوك اللاعبين الأساسين مثل البنوك وأصحاب القروض والمتعاملين في الأسواق «ولنطلق عليها مدخلات النظام» أو ”المدخلات“ قد يترتب عليها نتائج أو ”مخرجات“ لا تتناسب على الأطلاق في الحجم ولا في الاتجاه مع المدخلات، ونسمي هذا في علم الاقتصاد والرياضيات بالعلاقات اللاخطية ”العلاقات غير الخطية Nonlinear relationship“، ويستخدم علماء الاقتصاد القياسي عمليات رياضية معقدة «معادلات غير خطية ومعدلات نمو أسية Exponential growth» لوضع نماذج تحاكي أسواق المال. ولعل أهم سمات النظم ”غير الخطية“ هي الصعوبة في التنبؤ برد فعلها تجاه أصغر صدمة ممكنة للنظام، ومن ثم فإنه لا عجب أن تسمى دراسة كيفية استجابة هذه النظم للمتغيرات بنظرية الفوضى Chaos theory وهي التي تساعد في إدراك أن المصدر الأساس لعدم التيقن في الاقتصاد هو طبيعة النظام الاقتصادي نفسه. لهذا نشأ فرع في علم الاقتصاد يعنى بدراسة حالات عدم التيقن التي تتعلق بما قد يحدث في المستقبل، ذلك المجهول الذي يخبئ في طياته احتمالات عديدة معلومة ومجهولة لا تعلم أي منها قد يتحقق، ويسمي هذا الفرع ”اقتصاديات عدم اليقين Economics of unceratinity“ والتي تدرس الدور الذي تلعبه حالات عدم التيقن في الاقتصاد وفي تخصيص الموارد وفي الاختلاف في تفضيلات الناس للمخاطر وتطبيقات هذا على أنشطة التأمين وأسواق المال واقتصاديات المعلومات.

عدم اليقين والأعمال

إن أحد أركان التحليل الاقتصادي للمخاطر ومفتاح الدخول إلى بهو اقتصاديات عدم اليقين هو في تحديد الفرق بين ”المخاطرة“ و”عدم اليقين“ وهما مفهومان قريبان من بعضهما لدرجة أن كثير من المتخصصين يستبدلون خطئاً الثانية بالأولي. وللتفرقة بينهم بشكل مبسط، نبدأ بعدم اليقين، فالمستقبل غير معلوم وأنت لا تعرف ماذا سيحدث غداً، فقد تتعرض لحادث سقوط أو انزلاق، يمنعك من الذهاب للعمل أو يعيق تأديتك لعملك. أما بالنسبة للمخاطرة، فهي حدث في المستقبل لكنك تعرف نسبة احتمالية حدوثه أو خصصت له نسبة لاحتمالية تحققه، ونسباً أخرى للأحداث البديلة في حال تحقق إحداها «عند إلقاء حجر النرد مثلاً يكون احتمال تحقق أي رقم من الأرقام الستة = 6/1». وإذا كان هناك إمكانية مثلاً لأن تنزلق في في دورة المياه في الشركة بسبب عدم مسح الأرضية أو أمكانية أن تتعثر وتسقط من على السلم في نفس المبني هذا لأنك وضعت أفضلية لاستخدام السلم بدلاً من المصعد الكهربائي لرغبتك في تنشيط جسمك، وعليه يمكنك أن تخصص نسبة لاحتمال تحقق أي منها، وليكن نسبة 99,9999% للانزلاق بسبب رطوبة الأرضية في دورة المياه، ونسبة 0,0001% للتعثر والسقوط من على السلم. ولتحويل أي حدث من حالة ”عدم اليقين“ إلى حالة ”المخاطر“ إذا حددنا له نسبة لاحتمالية تحققه.

إذا كان كل شيء ممكناً Possible، وهذا جوهر مفهوم ”عدم اليقين“، فإن كل شيء ليس محتمل Probable تحققه بدرجة متساوية، وهذا هو جوهر مفهوم المخاطرة. وإزاء ذلك يبذل المتخصصون في اقتصاديات عدم اليقين Economics of uncertainty في ساحات أسواق المال وصناعة التأمين قدراً كبيراً من الجهد والوقت لتحويل حالات ”عدم اليقين“ إلى مخاطر نعرف احتمالات تحققها. [1] 

الخطر وعدم التيقن ”اليقين“ مفاهيم تتكرر في عالم الأعمال، فما العلاقة بينهما؟ وهل هناك تشابه أو اختلاف بين المفهومين؟ يشترك المستثمرون وأصحاب الأعمال والرياديين في إدراكهم لمفهوم المخاطر ومفهوم عدم اليقين، سواء كان الأمر متعلقاً ببناء علاقة مع عميل جديد، أو إطلاق منتج جديد، فإن المخاطر وعدم اليقين تؤثر على كل قرار تجاري وكل القرارات المتعلقة بممارسة الأعمال، فأثر المخاطر وعدم اليقين يدفع المنشآت الناشئة إلى الابتكار بشكل أسرع Innovate faster، أو في أسوء الظروف تعثر أو إفلاس الشركات Bankrupt businesses التي تفشل في التخطيط وفق هذه المعطيات.

يُعرف الخطر في بعض الأحيان على أنه ”عدم التيقن في النتائج Uncertainty of outcomes“ ورغم أن هذا التعريف يعد تقني إلى حد ما، ولكنه تعريف مفيد في إيصال المعنى، كذلك يتم تعريف الخطر على أنه احتمالية أو أرجحية possibility or probability وقوع حدث غير مرغوب فيه. في ممارسة الأعمال قد تشير المخاطر إلى احتمال خسارة المال أو الوقت أو المعلومات. ولأن المخاطر قابلة للحساب والتقدير والقياس، فإنه يمكن استخدام بيانات السوق لتقدير ودراسة مدى إمكانية تقديم منتج جديد ومدى احتمالية نجاحه، أو بعبارة أخرى هل يستحق الأمر المخاطرة، ويمكن القياس على ذلك مع كل الفئات ذات العلاقة بالأعمال.

أما بالنسبة لعدم التيقن ”اليقين“ Uncertainty، فهو ينطوي على عنصر الشك وعدم اليقين على مواقف تتضمن متغيرات Variables، ومعلومات Information، ونتائج Outcomes غير معروفة. ولا يمكن حساب Calculated أو قياس Measured عدم التيقن، نظراً لأن الأحداث غير المؤكدة أو المتيقن منها تُعد أحداث فريدة Unique من نوعها وهناك صعوبة في التخطيط لها، لهذا هي تجلب معها سلبيات أكثر للمنظمات التي لا تملك الاستعداد لها.

بما أن الخطر وعدم اليقين يحيط بكل الأعمال، لذا يُعد تقييم الخيارات والنتائج، والعمل بروح الفريق وتحديد الإجراءات المناسبة، تعتبر وسيلة لإبقاء المنظمة في حالة تيقظ تجاه ما يحيط بها من مخاطر، وعليه فإن توفر الاستعداد والخبرة الملائمة والممارسة الكافية للأعمال كفيلة بتحول الخطر من عائق obstacle إلى تحدي challenge فالمخاطر يمكن أن تفتح فرصاً جديدة للأعمال.

يمكننا طرح الأمثلة المبسطة التالية حول المخاطرة وعدم التيقن في عالم الأعمال:

قرر أحد متاجر بيع الملابس عبر الأنترنت Online clothing store بيع مجموعة موديلات جديدة كلياً من الملابس، وذلك بناء على تحليل على العملاء وسلوكهم الشرائي قام به قسم بحوث التسويق، هذا القرار يعتبر مخاطرة. بالمقابل لو قان نفس المتجر بطرح منتج جديد غير مرتبط بنشاط المتجر الرئيس وليكن المنتج في مجال الأثاث المنزلي مثلاً وذلك بدون بحث أو تحليل لطلب العملاء، هذا يعتبر عدم تيقن.

مثال آخر يوضح مفهوم الخطر، وهو قيام شركة بوضع كافة عملياتها وبيناتها على سحابة cloud رقمية، أما عدم التيقن فهو يتمثل في أت يؤثر انقطاع كبير Major outage على خوادم متعددة Multiple servers في كل أرجاء البلد.

مثال آخر، وهو افتتاح مكتب تابع لوكالة إعلانية في بلد جديد وسوق جديد، هذا يمثل مخاطرة. حالة عدم التيقن، هي في دخول البلد في حالة ركود Recession اقتصادي.

وخلاصة الأمر ببساطة حول المفهومين هو أن الخطر شيء يمكن قياسه Measured وتقديره والتنبؤ به Predicted، في حين لا يتوفر ذلك في مفهوم عدم التيقن ”اليقين“.

[1]  للمزيد أنظر: اقتصاديات عدم اليقين، سمير الشناوي، موقع المحطة. متوفر على الرابط:
https://elmahatta.com/?p=21120