آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 5:35 م

رُهاب الحلم.. مقاربة ميكروسردية لقصة «محاولات» القصيرة جداً للكاتب حسن علي البطران

فاطمة الزغول صحيفة الدستور

اجتهد الإنسان منذ نشأته البدائية إلى عصرنا الحاضر في محاولة تفسير ظاهرة الحلم أو الرؤيا، وهو ما يراه الإنسان في حالة اللاوعي أثناء النوم، حيث يصبح النائم خارجاً عن السلوك الإرادي الواعي، إلى سلوك لا إرادي ينقله إلى عوالم وأحداث غريبة دون أن يكون للجسد المادي دور حقيقي فيها.

اهتم العديد من علماء النفس بدراسة ظاهرة الحلم وأبعادها الرمزية، وأسباب حدوثها وانعكاساتها على الشخصية، ومن أبرز الدارسين لهذه الظاهرة الألماني «إيريك فروم» في كتابه «اللغة المنسية 1951م»، والنمساوي سيجموند فرويد في كتابه «تفسير الأحلام 1899م»، والسويسري كارل يونغ 1875م، وغيرهم.

تتشكل الأحلام حسب فلسفة فرويد من تلك القوى والمشاعر والرغبات المنطوية في دواخلنا، والتي تملي علينا أفعالنا رغم عدم وعينا لها، وهو ما أطلق عليه مفهوم اللاوعي معبراً بهذا المفهوم عن القوى والرغبات المكبوتة بداخلنا والتي تخضع لرقابة شديدة تحول دون وعينا لها، والتي تخرج من كينونتها المكبوتة على شكل حلم، وحتى في الحلم يعتبر فرويد أن هذه الرقابة الداخلية تحد من ظهور الدوافع الأساسية إلى ظواهر ثانوية رمزية.

تقودنا فلسفة فرويد في تفسير ظاهرة الحلم إلى ظاهرة الخوف والرُهاب التي تسيطر على النفس البشرية في صراعها مع رغباتها المكبوتة التي تحاول إخفاءها، وذلك لمخالفة هذه الرغبات والقوى لرقابة الأعراف السائدة والقوى الرادعة التي تمنع من ظهورها.

شكّل الحلم بما يحمله من فلسفة ودلالة رمزية عنصراً هاماً في العديد من الأعمال الأدبية، الشعرية منها والنثرية، فالكاتب يحاول دائماً الإبحار في خفايا النفس البشرية والولوج إلى الظواهر العميقة التي تؤثر فيها سلباً وإيجاباً، فالأدب ما هو إلا مرآة تعكس الواقع بشفافية إبداعية يجتهد فيها الكاتب بتوظيف معطيات اللغة وأصناف البلاغة لنقل المشاهد التصويرية المستوحاة من الواقع إلى نصوص سردية مليئة بالجمال والخيال والدهشة والتحبيك الذي يدفع المتلقي للإمعان في أعماق الدلالات والإيحاءات البلاغية والرمزية.

تعتبر القصة القصيرة جداً من الفنون الأدبية الحديثة التي تجسد الحالات النفسية والاجتماعية، والأحداث السياسية والاقتصادية التي تلعب دوراً بارزاً في صقل الشخصية الإنسانية، فيبرع الكاتب في تصوير المشاهد والانفعالات المستوحاة من مشاهدات الأحداث الواقعية بصورة ومضية، يختزل فيها الكاتب مفردات اللغة ببراعة لينقل للمتلقي المشاهد التصويرية في لغة مكثفة بعيدة الدلالات.

ومن النصوص القصصية القصيرة جداً التي تضمنت ظاهرة الحلم وانعكاساتها الرُهابية على النفس البشرية هذه القصة القصيرة جداً للكاتب السعودي حسن علي البطران الذي تعددت إصداراته في مجال القصة القصيرة جداً بما تحمله من موضوعات متعددة ركز في العديد منها على الجوانب الإنسانية والنفسية للشخصية.

«محاولات»

«حاول أن يقفز بعيداً عن الجدار، رأى بنت الجيران في حلمه 

خاف أن يراه أحد وهو يحلم بها..!

أدمن المنبهات حتى لا ينام..!»

تستند المقاربة الميكروسردية التي سأنتهجها في تحليل هذه القصة القصيرة جداً، إلى مجموعة من المستويات والمعايير والمقاييس النقدية المعتمدة على الجوانب الدلالية، والشكلية والبصرية، سواء كانت داخلية، أو خارجية.

أما عن مستوى العتبات النصية في هذه القصة القصيرة جداً، فقد جاء العنوان فيها أحادياً اسمياً «محاولات»، وقد جاء بصيغة الجمع بدلالة التكرار للعمل، فالمحاولات تدل على تكرار المحاولة، وهي اسم مرة مما يدل على جهد مبذول للوصول إلى نتيجة معينة.

أما بداية النص فقد ابتدأه الكاتب بجملة فعلية مستوحاة من العنوان «حاول أن يقفز بعيداً عن الجدار» معبراً عن فعل حركي بدلالة الماضي وفي هذه الجملة الفعلية تتشكل حبكة الاستهلال، فالمعطيات فعل المحاولة وفعل القفز «المصدر المؤول من أن يقفز» والدال علي محاولة الارتفاع، ووجود الحاجز «الجدار» الذي تسعي الشخصية إلى تخطيه، وهذه الحبكة تقود المتلقي إلى الاستمرار في متابعة المضمون السردي للوصول إلى حل رموز هذه الجملة.

ولو تمعنّا في المستوى الطبغرافي للنص، نجد أن مساحة النص اتخذت فضاء سردياً نصياً تساوى فيه البياض والسواد، فقد اتخذ النص وضع المنتصفمن بداية شاشة العرض في موقع الكاتب في «الفيسبوك»، إلى منتصف الشاشة حيث تم إرفاق صورة توضيحية من تقنيات الحاسوب لشاب يحاول القفز عن الحائط، مما يساعد في توضيح المشهد الدلالي للمتلقي وجذبه إلى النص، وقد ظهر النص قصيراًجداً، وهي السمة الأبرز من سمات هذا الجنس الأدبي التي تميزه عن غيره من الفنون الأدبية النثرية الأخرى، فالنص هنا لا يتجاوز الأربع عبارات وقد التزم الكاتب بعلامات الترقيم، والتي أضفت على النص بعداً دلالياً، فالفاصلة بين الجملة الأولى والثانية التي انتهت بنقطة دلالة على الارتباط الحدثي بين الجملتين، ومحاولة «القفز عن الجدار» قادت الشخصية إلى الحلم ببنت الجيران، وهنا وقفة تأمل بعد النقطة، ثم الحدث التالي وهو الخوف وحالة الرُهاب المترتب على الحلم وما يتلوه من ملابسات عبّر عنها الكاتب بعلامات الحذف وعلامة التعجب، والتي تلتها النهاية المدهشة المنتهية بعلامات الحذف وعلامة التعجب، تاركاً للمتلقي مساحة من التخيل والتفكير في عواقب الأحداث وما أضمره الكاتب.

ولو تمعنّا في المعيار السردي لهذه القصة القصيرة جداً، نجد أنها احتوت على العنصر الأساسي في الفنون الأدبية النثرية، كالقصة والرواية والقصة القصيرة جداً، وهو عنصر القصصية والحكائية، فالقصة انطلقت من معيار الحدث، وهو محاولة القفز عن الجدار، والذي تقوم به شخصية أحادية في القصة، وما يميز هذه الشخصية هو عنصر التنكير، فالشخصية غير مسماه باسم، بل حملت ضمير الغائب «هو»، وهذه سمة من سمات القصة القصيرة جداً إذ يستطيع الكاتب استخدام التنكير من بداية القصة إلى نهايتها، كما تجلى في هذه القصة عنصر التركيز، فالأحداث جميعها مركزة في حدث مهم وهو الرُهاب الذي سيطر على الشخصية نتيجة الحلم، ومحاولة تخطي الحاجز والاستعلاء عليه، فلا مجال في القصة القصيرة جداً لتشتت الأحداث، وتوزيعها في مجالات متعددة، فالمهم هو الحدث الرئيسي، فالأحداث الجانبية الاعتيادية يستوحيها المتلقي، دون الحاجة إلى سردها بتفاصيلها الدقيقة كما هو الحال في القصة القصيرة أو الرواية.

يظهر في هذه القصة القصيرة جداً عنصر التلغيز والرمزية والتحبيك، فالأحداث تثير شغف المتلقي، وتترك في ذهنه مساحة فارغة تحتاج إلى ملئها، فما هي الأسباب التي دفعت الشخصية للقفز عن الجدار؟ وما علاقة هذه المحاولة بالحلم ببنت الجيران؟ ولماذا أدمنت الشخصية شرب المنبهات منعاً لحدوث النوم، وهو المطلب الغريزي للإنسان؟ كل هذه التساؤلات وغيرها تتولد في نفس المتلقي تلقائيا مع قراءته للنص، فكل كلمة في هذا النص تحمل بعداً دلالياً رمزياً يقود إلى التفكير العميق، ومع ذلك حافظ الكاتب على عنصر الاقتضاب فلم يسهب في وصفه للأحداث والانفعالات الشخصية، وإنما ركّز على العناصر المهمة للأحداث دون قصور في المضمون، وهذا يقودنا إلى العنصر الأساسي في القصة القصيرة جداً، وهو عنصر التكثيف الذي يعتبر شرطاً من شروط القصة القصيرة جداً، فنجد أن الكاتب هنا كثّف الأحداث تكثيفاً مختزلاً ركز فيه علي الأحداث البارزة، دون إخلال في العناصر الأساسية للمضمون السردي، وهنا تبرز المهارة في اختيار الألفاظ المناسبة، والتي تختزل فحوى الأحداث، وتبرز ملابسات الحدث دون إسهاب وتفصيل بلا جدوى.

يبرز في قصة «محاولات» معيار التقبل والتلقي، والذي يوفر للمتلقي عناصر الجذب النصي، كعنصر المفارقة الذي نجذه في المفارقة بين حدث الحلم ببنت الجيران، وحدث الخوف الرُهابي الذي قاد الشخصية إلى إدمان المنبهات لعدم الوقوع في حلم متجدد، وهذه النهاية المدهشة التي تترك المتلقي في حالة ذهول أمام هذه الصراعات النفسية المسيطرة على هذه الشخصية وملابساتها.

يتمحور المعيار التركيبي لهذه القصة بعدة مقاييس أهمها: التركيب الجملي للقصة، والذي بناه الكاتب على الجمل الفعلية الحدثية المتنوعة في الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل، فبدأ القصة بفعل ماض «حاول» ثم انتقل إلىالحاضر «يقفز»، ثم الماضي «رأى»، ثم حدث الخوف وحدوث الإدمان الذي يوحي بالاستمرارية، فمعيار الجمل الفعلية من المعايير الأساسية في القصة القصيرة جداً، وذلك لأهمية العنصر الحدثي والزمني الذي يضفيه على النص. كما يعتبر عنصر التراكب والتتابع في الأحداث من العناصر المهمة، وهذا ما وجدناه في هذه القصة، فالأحداث تسير فيها متراكبة ومتتابعة بين محاولات القفز عن الجدار، والحلم ببنت الجيران، والخوف الرهابي وإدمان المنبهات فهذه الأحداث متراكبة ومتتابعة ومتسارعة أيضاً، فالانتقال من حدث إلى حدث يبدو سريعاً وكأنها تسير بسرعة ومضية برقية.

أما عن المستوى الدلالي لقصة «محاولات» فهي تحمل بعداً اجتماعياً نفسياً، فالشخصية الأحادية الرئيسية في هذه القصة، تسيطر عليها حالة من الرُهاب الكامن في أعماقها، والذي شكّل أمامها حاجزاً وهمياً «الجدار» منعها من ممارسة المتطلبات الغريزية والرغبات الإنسانية، وهذا الخوف سيطر عليها حتى في حالة اللاوعي مما دفعها للإدمان على المنبهات خوفاً من تكرار الحلم ببنت الجيران، ظناً من هذه الشخصية أنها مراقبة حتى في الحلم.

استطاع الكاتب توظيف مفردات اللغة ببراعة ليلفت المتلقي إلى قضية اجتماعية نفسية تنتشر عند بعض الفئات من الشباب، وهي حالة الرُهاب والخوف الوسواسي، والذي ينعكس سلبياً على الشخصية ويحد من نشاطها وإنتاجها، نتيجة الشعور الدائم بالقلق والتوتر الناجم عن حالات الكبت الرغباتي القسري، والذي قاد الشخصية إلى الإدمان على المنبهات، وهي حالة منتشرة عند العديد من الشباب، موظفاً ألفاظاً ذات رموز دلالية كالحلم والإدمان والنوم والرؤية.

كانت هذه المقاربة الميكروسردية لقصة محاولات للكاتب حسن البطران، محاولة للوقوف على المستويات الإبداعية للقصة القصيرة جداً، والتي أصبحت مثار اهتمام الفئة الأوسع في المجتمع الثقافي، وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي انتشرت فيها بشكل واسع لسهولة تلقيها في شتى الأماكن، ولعنصر القصر مع إثارة الدهشة والتفكير الذي يشبع رغبات المتلقي من الإبداع الثقافي في أقصر زمن وأقل كلفة.