آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

قصة قصيرة

عصفور الساعة...

موسى الثنيان

تسمر الطفل حسن في مكانه، واشرأب عنقه محدقا ببصره إلى الساعة الخشبية المعلقة على الحائط منتظرا خروج العصفور من قلب الساعة مغردا مع صوت حفيف أوراق الأشجار، وخرير الماء المتدفق، معلنا بلوغ الساعة الثالثة ما بعد الظهر. لم تكن الساعة ذات ضرورة قبل الآن ولم يكن العصفور المصنوع من المعدن والخالي من أي زغب ذا أهمية، إلى أن كبر حسن وانجذب إلى ذلك العالم الكائن خلف الباب الذي يطل منه العصفور كل ساعة، بات العصفور صديقا له، ينتظره بترقب، فرح الأبوان لتلك العلاقة التي نشأت بين ابنهما وعصفور الساعة، وذلك الشغف الذي ألم به، فصار كلما فُتح الباب، أدار رأسه إلى حيث الحائط، تاركا دميته ملقاة على الأرض، ومنصرفا عن برنامجه التلفزيوني المفضل، ومعتليا الأريكة كي يكون قريبا منه لحظة إطلالته.

ويحدث أن يطل العصفور فيعود سريعا ويغلق الباب وهو في غفلة منه، فيغضب حسن ويدخل في حالة من الصراخ والبكاء، فيقوم الأب تارة والأم تارة أخرى بإعادة عقارب الساعة معيدين الزمن إلى الوراء ليطل العصفور ثانية مختالا بزقزقته دون ملل ثم يعود ليندس ثانية في بيته الخشبي.

استيقظت الأم صباحا لتتفاجأ بتوقف الساعة عن العمل لنفاد طاقتها الكهربائية، ظنت أن حسن لن يلاحظ ذلك، لكن خاب ظنها حيث اكتشف أن صمتا قد أطبق ولم يعد العصفور يزقزق، وعندها توقف الزمن عنده، ودخل في نوبة غضب جنوني وتدفقت الدموع من عينيه، قالت الأم: لا بد أن البطاريات قد نفدت طاقتها. حينها كان الأب غائبا عن المنزل في مقر عمله، ولم يكن هناك متجر قريب من البيت، هاتفت زوجها لتخبره بحالة ابنهما، وجاء رده أن عليها الانتظار لحين العودة، قامت باستعارة بطاريات جهاز التحكم عن بعد للتلفاز، ولكنها اكتشفت أنها أصغر حجما ولا تتناسب مع حجم بطاريات الساعة. واصل حسن البكاء حتى تعب ونام على الأريكة، وهنا ساد الصمت في المكان، صمت حذر، حيث تعلم أن ابنها قد يفيق بين لحظة وأخرى ليعاود سيرته الأولى بكاء وصراخا، لذا تمنت ألا يستيقظ قبل مجئ زوجها.

تنظر إلى عقارب الساعة وهي تعلن توقف الزمن، وانطفاء حركة كل شيء في البيت، حتى موعد عودة زوجها لم تعد هناك مؤشرات يمكن تسجيلها لمعرفة قرب وصوله.

أفاق حسن وانطلقت عيناه تحومان في المكان لترتكز أخيرا وبشكل مباشرة على الحائط حيث الساعة، وأخذ ينظر إليها منتظرا إطلالة العصفور، ولكن عقارب الساعة ظلت جامدة، حينها شعرت الأم بالتوتر وتحسبت أن يعاود ابنها البكاء فقررت ارتقاء الأريكة وإنزال الساعة من فوق الحائط، فتحت بابها وأدخلت كفها إلى أعماق ذلك العالم وأخرجت العصفور الذي كان جامدًا بلا حراك ولا صوت، وهنا بدا حسن وكأنه ينتظر من العصفور شيئا، لكن لا زقزقة ولا صوت لخرير الماء، شحب وجهه واعتلته حمرة الغضب دون أن يصدر منه أي انفعال، لم يغضب ولم يفرح، كأنه قد رضي بالشيء القليل.

عند الظهيرة دخل الأب حاملا معه قفصا أبيض وبداخله عصفور كناري ذو زغب أصفر لامع، وعلى رأسه ندبة بيضاء اللون، فاندفع حسن راكضا إلى أبيه الذي وضع القفص على الأرض، قرّبه من حسن وعيناه تتابعان ردة فعله، ومكث الطفل يلاعب العصفور ضاربا بكفه القفص بينما هذا الأخير يتطاير مذعورا وجفلا.

وبعد زمن إذا بحسن يشخص ببصره نحو الساعة التي أعيدت للحائط مجددا حيث فقدت الحياة منذ ساعات، وقام وصعد على الأريكة منتظرا العصفور بيأس، يأس انتهى بنوبة من البكاء جديدة، جرى ذلك وأبواه يراقبانه بدهشة وهما ينظران لبعضهما بين الحين والآخر يحاولان أن يجدا تفسيرا لما يحدث.

عندها قامت الأم واحتضنت حسن، وأخذته إلى حيث قفص الكناري وأخذت تحدثه: انظر إلى العصفور يا حسن، شاهد ريشه الأصفر.

ولكن حسن واصل بكاءه، بل قام وجرى نحو ساعة الحائط يشير إليها بيده، هنا التفت الأم للأب قائلة: هل اشتريت بطاريات؟

الأب: حين عزمت على شراء العصفور أجلت شراءها إلى ما بعد.

وبدت الخيبة على محياه، وقبل أن يتناول طعام الغذاء قام متثاقلا، وانطلق إلى أقرب متجر، تاركا حسن يواصل بكاءه غير مبال بالكناري الرابض على قصبة قفصه صامتا دون أن يصدر أي لحن غنائي أو حتى صوت.

صراخ حسن الذي يملأ المنزل ضجيجا بدأ يهدأ تدريجيا مع عودة الأب حاملا معه بطاريات الحياة لذلك الطائر المعدني.

وهكذا فتح باب الساعة لأول مرة منذ ساعات مضت، وأطل العصفور منها مزهوا بزقزقته، بينما كان الكناري يتطاير في القفص زاعقا بصوت حاد، والأبوان يفكران أهي الغيرة أم الخيبة؟