آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

زارعُ الأمل

المهندس هلال حسن الوحيد *

لم ينتظر صاحبي حتى كانون، أحبَّ أن يقلبَ صفحةَ الحزنِ قبل الأوان.

لم أمانع ولكن كان الشرطُ أن نلتقيَ في موعدٍ على الكانونِ في كانون بدونِ الخامسة.

هاتِ ما عندك، قال: تهتُ في صحراءِ الفقرِ سنينَ كما في حديث السَّمَرِ السابق. سرقتُ الخبزَ وأكلتُ ما يرميهِ الباعةُ من فواكهٍ وخضرواتٍ فسدتْ أو كادت. لم احصلْ على مصروفٍ يومي، كنتُ أرى الطلبةَ يأكلونَ ويتركونَ ما بقيَ على أطرافِ سورِ المدرسة. كل هذا ولم أبدي علاماتِ الاستعطافِ وأخبرهم بالجوع، أتسلقُ الجدارَ بعد الظهرِ وأجمعها. لا كهرباءَ ولا غرفةَ نومٍ ولا حمام كما يعرفه الناسُ وكراسُ المدرسةِ قصاصاتُ حواشي مجلة قافلةِ الزيت.

صاحِ، هذه مصائبٌ فأين الفرح؟ لمعت عيناهُ وقال: كنا في عامِ 1967م تقريباً وأنا في ضعفي، قلتُ لا بدَّ من شيءٍ أستطيع أن أساعدَ به نفسي، لستُ الفقيرَ الأوحد ولكنْ الأكثرْ فقراً. ها وثمَّ؟ قال: كان جلُّ الطلبةِ غير مهتمينَ بالمدرسةِ فمن يتخرج من الصفِ السادسِ حينها يكون مدرساً والطموحُ في أدنى درجاته والاقتصادُ وبقية الأحوال غيرَ ما يرغب فيه الناس. فكرتُ إن عملتُ بجدٍّ في المدرسة وساعدتُ الطلبةَ الباقين لتحاشي ألمَ العصا من المدرسين الأجانب لعلهم يشاركوني مصروفهم اليومي. هذا ما صنعت، كلما استعصى شيءٌ من الدروسِ خرجتُ في ظلمةِ الليل إلى بيتِ جارٍ أكبر مني سناً بين نباحِ الكلابِ وقفزِ السواقي لأَصِلَ إلى بيتهِ ويساعدني على ضوءِ الشموع.

أتت العروضُ من جميعِ الجهات، شاركني الأصدقاءُ الأكلَ واللعبَ والمصرفَ وليس سوى أن أعطيهم الدفترَ للمواد الذي ابتاعوهُ لي. اوه ممتاز! قال: حتى لا يتفرق الزبائن كنتُ مرغماً أن أقرأَ المزيدَ واجتهدَ أكثر مما سَمَحَ لي أن أكونَ الأولَ في السنةِ السادسة. عَمِلتَ بعدها مدرساً؟ قال: لا، لأن استاذاً مصرياً نصحني بمواصلةِ الدرسِ حتى أنَّ المدرسةَ المتوسطةَ كانت تنتظرني وفرحَ المدرسونَ أنني قادم...

الرابعةُ طويلةٌ وتفعيلاتها وقوافيها تحتاج إلى أكثرِ من جلسة، لماذا يا صاحِ لا نكملها مرةً أخرى لعلها تمتد إلى كانون؟

ابتسم صاحبي وقال أختصرْ. اشتدَّ العودُ وعملتُ كلَّ صيفٍ يَمُرُّ فيما تيسرَ من الاشغال. ذهبت الجامعةَ واشتريتُ أرضاً وأنا في السنةِ التحضيرية، ثم ثانيةً وثالثةً وحتى العاشرة. أتى المال مثل الديمة.

لم أصدق ما رأتهُ عيني أن صاحبي عَبَرَ على كل هذا الشوك وكنت أحسبُ أن الأيامَ كانت أخفَّ وطأةً عليه من الكثير. كانت الأيامُ سوداءَ فحولها إلى بيضاء ولَّدت عنده روحاً عُلويةً يشاركُ الأسى مع من يستطيع. لم يخاطب ضميرَ العالم المنصرف أويصرخَ في آذانِ العالم الأصم، لم يمت جوعاً ولكنه غاصَ بحارَ قدراتهِ السبع التي أعطاها إياه الربُّ فلم تخذله. من يلمهُ لو لعنَ الفقرَ ولازمَ مضجعهُ واستسلمَ لما هو أسوأ!

حكايةٌ من مسرحِ الواقع. أنا أزرعُ الأملَ في زمنِ الكبائر ولكن لا أبيعُ الوهم.

تصبحونَ على خير

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
تعليق
[ القطيف ]: 21 / 10 / 2017م - 4:14 م
مقال جميل جدااا
مستشار أعلى هندسة بترول