آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

صداقة بعيدة

ليلى الزاهر *

بزيارة خاطفة لمدارس الصم أنصتُّ لجمال حشرجة الصوت يتردد في فضاء حنجرتهم إلا أنهم أخفقوا في إخراجه بصورته الصحيحة.

الألم العميق الذي يحدثه عجز البوح هو ذاته الألم الذي يشعر به من فقد أنيسا أو محبّا ثمّ فقد لذّة الحديث، لذلك يلجأ البعض لسد ذلك العجز بالصداقة البعيدة عن الجسد لكنها لصيقة بالروح كصداقة الكتّاب الذين تشخص حروفهم أمامنا دون أن ننظر لأجسادهم.

إن الصداقات الجميلة التي جمعتنا بصاحب الفضيلة المنفلوطي جعلتنا نواصل رحلة الحياة الممتعة بين كلماته حتى وأن انشطر الطريق احتضنتنا تجربة جديدة لأحد الأصدقاء. ربما لم نتردد في طلب نصحهم لأنهم لايتذمرون بل تعهدوا لنا بحمل أعباء همومنا فوق عاتقهم.

لذلك مازال الكتاب أولا وأخيرا يمنع حاضنه من استجداء المشاعر والشكوى حتى وأن كانت تنفيسا عن مشاعر الضيق والألم الذي نشعر به. ومازال الكتاب المرشد والدليل الذي يسكب الدعم في النفوس ويقايضك بالحب محاولا إمدادك بالمزيد من التجارب التي تُعيد لك لياقتك الفكرية وتعطيك الدروس الجديدة لتوظيف قدرات جديدة تجعلك تغادر المضيق إلى محيطات شاسعة من الثقة بالذات.

يقول مصطفى السباعي:

لا ينمو العقل إلا بثلاث: إدامة التفكير، ومطالعة كتب المفكرين، واليقظة لتجارب الحياة.

الصداقة البعيدة عنوان الذكاء الصارخ الذي يملأ عقلك نشاطًا، ويمدّك بأبواب متلاحقة من العلوم يفتحها لك الإصرار بابا تلو الآخر. وما صداقة العقول إلا اجتماعها جملة واحدة في جبروت عقلك.

أخبرتني إحدى الطالبات أنها تستطيع أن تُنمّق معلوماتها وتهذبها عندما تغيب يوما دراسيا كاملا دون حاجتها لأحد فهي في صداقة علمية مفتوحة للاطلاع، صداقة فكرية جميلة تخصب ثنايا عقلها، وترفع مستوى إدراكها العلمي يوما بعد يوم.

فما أجمل أن يكون الإنسان معلّم نفسه

يُملي عليها إجابات منطقية ويستحضر البراهين المنقوعة بماء التعليل المعقول وليس لمجرد الاستغناء عن المعلم استنكافا.

إن استقرار القوة في الأذهان علامة من علامات الانتفاع العلمي الذي يأتي من خلالها العقل طائعا مذعنا، ومن هنا تأتي صناعة العقول.

يقول أحد المفكرين:

«إن صناعة عقل واحد، خير من إثارة ألف عاطفة، العقل يثبت والعاطفة تموت، وثابت واحد خير من ألف منتكس»

وفي الوقت الذي يجبرك البعض على إنهاء حديثك معه لأنه يعتقد أن وقته أثمن من وقتك وأن حديثك مجرد من الفائدة والمتعة يهبك الكتاب أوقاتا مفتوحة يتبادل أطراف الحديث معك دون فتور أو مقاطعة.