آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

الإنجاز بين الفرد والمجتمع «الجزء السادس»

من المسؤول عن الإنجاز وصناعة الحضارة، هل هو الفرد أو المجتمع؟

استعرضنا في الأجزاء السابقة النظرية الأولى وهي الرأسمالية والنظرية الثانية وهي الماركسية وبدأنا في الحديث عن النظرية الثالثة حيث استعرضنا العلاقة بين الفرد والمجتمع.   وتأكد أن التوازن الدقيق والحساس بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع هو المعيار الحقيقي لتحفيز الإنجاز. وسنتحدث هنا بالتفصيل عن النظرية الثالثة.

ركزت النظرية الرأسمالية على تحفيز الإنتاج وتعظيم الثروة والملكية الفردية، أما الماركسية فأهتمت بتوزيع الثروة والملكية العامة، وقد تبين عجز النظريتين عن حل المشكلة الإجتماعية والإقتصادية.

تتميز النظرية الثالثة بسعيها الحثيث لضمان صلاح وسعادة الفرد والمجتمع المادية والمعنوية،   فهي نظرية أصيلة إنسانية إجتماعية إقتصادية أخلاقية يجب علينا أن نبذل الجهد لدراسة آرائها ومن ثم عرضها في الساحة العالمية للمناقشة والدراسة والتطبيق ما أمكن. وأحب أن أذكر أن هذه النظرية الثالثة في الإنجاز تصلح بصفتها الإنسانية للتطبيق بغض النظر عن الدين والجغرافيا.   نعم، قد تبدو بعض الأنظمة كالحقوق الشرعية دينية، ويبدو التشجيع على الصدقات وغيرها من الأعمال الأخلاقية بالجزاء الأخروي غيبيا، وهذا ما نعتقده ونؤمن به، ولكن هذا لا يمنع الإنسان، دينيا او لادينيا، شرقيا او غربيا، أن يطبق هذه النظرية لأنها تتفوق على النظريتين السابقتين وتقدم الحلول الناجعة للمشكلة الإنسانية.   إن هدفنا هو تشجيع وتحفيز الإنجاز والإنتاجية لتتحقق السعادة وتتطور الإنسانية في أرجاء الدنيا شرقها وغربها.

علاقة الإنتاج ثلاثية العوامل في الرأسمالية والماركسية:

تسعى كل النظريات الإجتماعية والإقتصادية الى تشجيع وتحفيز الإنجاز والإنتاجية في الفرد والمجتمع. ولكن ما هو المجتمع الذي نعنيه هنا؟   المجتمع هو الأفراد الآخرون الذين يعيشون او يشتركون او يعملون مع الفرد. وحيث أن الإنتاج عملية تحتاج الى الأرض والمصادر الطبيعية من الماء والمواد الخام، لذا فإن العوامل الثلاثة المهمة في علاقة الإنتاج، كما تراها الرأسمالية والماركسية، هي عوامل مادية: وهم الإنسان، والإنسان الآخر الذي يعمل او يعيش معه «أي المجتمع»، والطبيعة «أي الأرض». لذلك درست النظريتان هذه العلاقة ذات العوامل الثلاثة بصورة مادية بحتة بعيدا عن الأخلاق والقيم والدين.

العامل الرابع في النظرية الثالثة:

تضيف النظرية الثالثة عاملا رابعا الى هذه المعادلة الثلاثية وهو الله سبحانه وتعالى.   وهذا العامل الرابع يرسم علاقة جديدة تختلف تماما عن العلاقة السابقة ذات العوامل المادية الثلاثة، فوجود الله في المعادلة الرباعية يجعل الإنسان خليفة على الأرض ومستأمنا عليها من قبل الله «المالك الحقيقي».   ويجعل العلاقة مع الإنسان الآخر علاقة تتسم بالإنسانية، كما ورد: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»، فله حق الحياة بعزة، دون إستغلال لحاجته أو امتهان لكرامته. ويضيف هذا العامل الرابع نظاما إقتصاديا وإجتماعيا شرعه الدين عبر الرسول المرسل من قبل الله، وهو النبي محمد ﷺ.   كما ويضيف اعتقادا راسخا بحياة أخروية أبدية فيها الثواب والعقاب مما يعطي معنى متكاملا مع الحياة الدنيا. إن وظيفة هذه العلاقة الرباعية وما أسست له هو ضمان سعادة الفرد والمجتمع المادية والمعنوية. فهي تضمن تحفيز الإنجاز والإنتاجية وصناعة الحضارة وتكوين الثروة والغنى ومعالجة الفقر في الدنيا وتضمن الخلود في الجنان في الدار الآخرة، فقد جاء الحث صريحا، حيث ورد: «أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا»، وقال  تعالى: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا»، وقال تعالى: «ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لايعلمون». تجدر الملاحظة بأنه يمكن دراسة هذه النظرية بالتفصيل من زاوية اقتصادية في المراجع المختصة.

 

ركائز النظرية الثالثة:

تحفيز الإنتاج من خلال: التشجيع على العمل وطلب الغنى، وضمان حرية الإنتاج والأسواق،

عدالة التوزيع من خلال: ضمان حق السبق لأي إبداع او إختراع وتقدير جهد العامل، وفرض حقوق مالية على الثروات والأرباح، وإستخدام هذه الحقوق لتأمين الضمان الاجتماعي لمحدودي الدخل من الفقراء والمحتاجين، وحث الأغنياء على الإحسان وتقديم العون للآخرين،

السماح بالملكية الفردية الخاصة لتشجيع الأفراد على الإنتاج والإدخار والإستثمار، وتلبية لفطرة الإنسان في حب التملك، ومنها يتكون القطاع الخاص كالمؤسسات والشركات،

السماح بالملكية العامة للكثير من المصادر والممتلكات العامة واستثمارها في البنى التحتية والمشاريع الأساسية ذات الكلفة العالية والمردود الربحي القليل والتي يحجم عنها الأفراد والشركات المملوكة للقطاع الخاص.

المال أي النقود ليست سلعة تباع وتشترى، فلا يجوز إقراض المال مقابل ربح مضمون «الربا».   فبدلا من تكديس الثروة نقدا في البنوك، يفضل المشاركة بها مع اليد العاملة في أعمال تجارية او غيرها على أن توزع الأرباح حسب أتفاق الأطراف المشاركة.   وحين ننظر الى الهزات الإقتصادية السابقة نجدها قد أفلست بالكثير من الشركات والحكومات نتيجة الديون المتراكمة والفوائد الربحية الباهظة المفروضة عليها.

سمات النظرية الثالثة:

التوازن بين القطاع الخاص والقطاع العام يحقق تنمية اقتصادية متوازنة تلبي جميع الحاجات المادية والمعنوية، فبينما يقوم القطاع الخاص بالاستثمار والتنافس على المشاريع ذات الفرص الربحية، يتولى القطاع العام مشاريع الخدمات والبنى التحتية من الكهرباء والماء والصرف الصحي والقطارات والمطارات والجامعات والمستشفيات وغيرها،

الكفاءة في الإنتاج نتيجة الحرية المتاحة للإستثمار والأسواق وقوانين العرض والطلب لتحديد الثمن مما يشجع المنافسة على ضمان الجودة والإنتاجية بأقل تكلفة ممكنة،

تحريم الغش والإحتكار مما يضمن تنافسية عادلة وكفاءة مميزة في العملية الإنتاجية،

تحريم التبذير في الاستهلاك مما يوفر المصادر الطبيعية لتلبية حاجة البشر ولضمان التنمية المستدامة،

تجنب الدعاية الإستهلاكية ما أمكن وتحريم الإحتكار لرفع الأسعار، عدالة التوزيع تضمن سعادة الفرد والمجتمع في المجالات المادية والمعنوية،

حيث أن الإنسان فطر على حب ذاته، فإن هذه النظرية تلبي هذه الفطرة في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا تشجع الإنسان على العمل والجد لإكتساب الثروة والغنى وتسمح له بالملكية الفردية.   وفي الآخرة تبشر الإنسان بالسعادة والدرجات العليا جزاء لإيتاء الحقوق المالية المفروضة عليه ولإحسانه وإعانته للفقراء والمساكين،

توافق هذه النظرية القيم الأخلاقية في بسط العدالة وتقدير الكفاءات ومحاربة الفساد المالي والإداري.

«الأرباح أولا» أو «الإنسان أولا»:

حين ننظر الى العملية الإنتاجية في عصرنا الحاضر يتبين بجلاء ووضوح أهمية الإنسان المتعاظمة في صناعة الإنجاز. إن أي خطأ يرتكبه الإنسان في عمله قد يكلف ملايين الدولارات أحيانا.   وإن أي إكتشاف او إختراع يصنعه الإنسان قد يؤسس لمستقبل مشرق للشركات تزيد قيمته عن بلايين الدولارات. وقد تزايدت هذه القيمة للإنسان في عصر المعلومات فأضحت الفكرة والمعلومة جوهرة الإقتصاد الحديث. ولكن مع الأسف، بنيت مدارس الإدارة الغربية على النظرية الرأسمالية التي تحكم أسواق العالم المفتوحة وأسواق البورصة لأسهم الشركات المدرجة.   وحيث أن الإدارة تمثل أصحاب رؤوس الأموال المساهمين في ملكية الشركة فإن جل اهتمامها هو زيادة قيمة السهم السوقية وهذا لا يكون إلا بتعظيم الأرباح وتقليل التكاليف «الأرباح أولا». ولذلك قد تدفع أي هزة إقتصادية إدارة الشركات لتسريح مئات الآلاف من العاملين وذلك لتقليل التكاليف. وهذا ما يسبب قلقا متزايدا لدى الطبقة العاملة وشعورا بعدم الأمان وعائقا يثبط عملية الإنجاز الفردي والاجتماعي.

لقد آن الأوان أن تتغير مدارس الإدارة الحديثة الى نمط «الإنسان أولا» والذي يعطي حافزا قويا ودافعا صادقا للإنجاز والإبداع على مستوى الأفراد والشركات.   إن نمط «الإنسان أولا» يتأكد بناء على النظرية الثالثة التي توازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع والتي أضافت الطابع الإنساني الأخلاقي الى العوامل المادية.   نأمل أن نتحدث عن هذا النمط الجديد في الإدارة مستقبلا إن شاء الله.

رئيس جمعية مهندسي البترول العالمية 2007
والرئيس التنفيذي لشركة دراغون اويل سابقا.