آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 11:13 ص

ابتسامة رقمية

ليلى الزاهر *

ما أن هاتفته أخته إلّا وابتهج قلبه، هي أيام قلائل ويعود إلى أرض وطنه فقد أنهى دراسته الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن صوتها بدا مرتجفًا وهي تخبره بالخبر المفجع الذي دوّى في أعماقه وزلزل الأرض تحت أقدامه.

كان هذا الخبر المفْجع صاقعة تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ.

ردّ عليها: ماذا تقولين يا حنان أبي وأمي؟

أجابته بصوت مُتهدِّج:

نعم يا أحمد طوى الموتُ صفحة والديّ سريعا. أردت إخبارك يا أخي قبل أن تسمع من الآخرين.

كان أحمد في ظلام يلفّ العالم بخياله يبحث عن والديه بين مصدق ومُكذب لهذا الخبر.

أنهتْ حنان مكالمتها مع أخيها وتركته كمحارب يصارع تصديق هذه الكلمات.

كيف لأحمد أن يجمع شتات أمره المبعثر بعد والديه بلا شك كانت صدمة قصمت ظهره أقعدته أرضا.

أخذ يحرك صور هاتفه الأخيرة التي جمعت بينه وبينهما في حفل تخرجه.

تصفيق أمه وهتافها عندما ذُكر اسمه، حضن والده الدافئ الذي ارتمى فيه تعويضا عن سنواته العجاف التي قضاها بعيدا عنهما إلّا من خلال كاميرا فيديو تربطهما لساعة أو ساعتين كل يومٍ.

ما أقسى الدنيا وهي ترمي بسهامها وتساوم الفرح بحزن يلفُّ السعادة ويقذفها بعيدا عن أحلامه.

بعد أيام أنهى أحمد جميع ارتباطاته في امريكا وحزم حقائبه مودعا زملاءه وهم يشدون على يديه مخففين بذلك العناء الذي كان يحمله فوف أكتافه.

ركب أحمد الطائرة التي سوف تقلّه لبلده تصحبه كلمات أمه، يتذكرها عندما تقول له:

بُنيّ ‏الحياة ليست سوى محطاتٍ نشعر من خلالها بطعم الإنسانية، لتكن إنسانا مع الإنسان حتى لو جمعتكما غابة.

أينما اتجهت عيناه طاردته ذكرياته مع والديه.

وفي مشهد سريالي يدعو للدهشة والتأمل رسم حياته مُصورا اللاشعور في أتعس منظور مُخاطبا الأيام:

لقد أخرجتِ أقسى ماعندك، سوف أُخبرُ نفسي عن الألم الذي عبرَ معي المحيطات مسافرا يشقّ مسافات اليأس

سوف أُخبر أمي عن صُراخ قلبي وقت احتضاره.

أسعد اللحظات كانت تستدعي حضوركما في حياتي. ليتهما لم يغادرا ومكثا معي وعدنا سويًّا.

أمنية تتلوها أمنية لكن هيهات أن يمهلنا القدر حتى نتزود ممن نُحب.

أعلنت المضيفة عن زمن وصول الطائرة وهي ترتجز أجمل عبارات السلامة بعد رحلة طويلة استغرقت أكثر من ثلاث عشرة ساعةً. لم يشعر أحمد من خلال ساعاتها بسوى المرارة والألم يعتصرانه وكانت الدموع تطارده إلّا في حالات نادرة حين يجمعه الحديث برفيقه الجالس بجواره حيث يسليه ببعض الأحاديث العابرة فيقابله أحد بفتور ولامبالاة، وكأنه اتّخذ الحزن مبدأ يعتنقه ويطبقه دون هوادة، قد وصل لقناعةٍ رسم حدودها في كلمات محدودة وهو يردد بخياله بعيدا:

في يوم ما لن تُبرر أي تصرُّف تقوم به ولكن سوف تضطر للدفاع عن مبادئك للموت.

ولو قلّبْتَ أروقة سائر الأحياء لابد أن تحفظ بصمتُك، وتنهض بعصبية عن كرسيك إذا زُوّرت.

غادر أحمد الطائرة وقد ورد على مسامعه أن السعودية أجْلت عشرة طلابٍ من الصين خوفا من مرض كورونا المنتشر هناك، وقد كان صديقه إبراهيم من ضمنهم فشعر بشيء من الارتياح لهذا الخبر حتى وأن طالت فترة حجرهم الصّحّيّ، لكنه لابد أن يلتقيه فهو بأمسّ الحاجة لوجوده لعله يخفف من ثقل هذا العناء الذي يشعر به.

إنها المرة الأولى التي يغادر فيها أرض المطار بمفرده دون والديه فقد اعتاد على استقبالهما الحار حتى أخته حنان سافرت مع زوجها الذي يعمل في شركة أجنبية خارج البلاد.

وصل أحمد لمنزله الذي يقع في منطقة سكنية حديثة ذات منازل أشبه بالقصور يقبع بجوارها أفخم موديلات السيارات ويحاذيها البحر بشواطئه المكتظة بالرياضيين وهواة المشي الذين يقطعون الشارع ذهابا وإيابا.

وما أن حطت قدماه عند الباب الخارجي تذكّر الساعات الجميلة التي كان يقضيها في الحديقة مع والدته ويشاطرها الأحاديث الجميلة، ثم تثاقلت خطواته وهو يهمّ بالدخول فأدار مفتاح المنزل بتباطؤ ودخل.

يبدو ذلك المنزل مشْبعًا بذكريات جميلة وشجيّة في آن معًا. إذ بين سبات الماضي وشُحّ الحاضر تتدفّق حُمَم بُركانيَّة تُنبئ مقذوفاتها بألم شديد، ليت ذكرياتها تخْمد! وبجولة خاطفة أخذ يتفحّص أرجاء المنزل يبحث عن أمه كطفل جُرّد من أحلامه، يصرخ وينادي أمي ألن تخرجي لاستقبالي؟ لابد أنك سوف تفاجئني كعادتك، كنت تختبئين وتظهرين فجأة، تداعبيني بضحكاتك الرائعة!

أمي لماذا رحلت سريعا؟ كنت تنتظرين عودتي أما الآن مابرحتِ مغادرة.

وكأن الموت أوقفني في محطة مقْفِرة مخيفة!

وما لبث أن أجهش بالبكاء والألم يغمر أعماقه مما جعله يغطّ في نوم أبعده عن العالم لساعات طوال.

تنفّس الصباح وانبعثت تباشيره المشرقة، استيقظ أحمد على صوت رنين هاتفه إذ كان المتحدّث صديقه يوسف الذي حياه بتحية عابثة ساخرة:

منذ يومك وأنت تحبُّ النوم هيا استيقظْ سوف أمرّ بك وسآخذك في رحلة قصيرة لاتخفْ سوف تكون تلك الرحلة على حسابي الخاص.

إلّا أن أحمد اعتذر عن قبول دعوته؛ لأنه مازال تحت وطأة حزنه على والديه، لكن إصرار يوسف جعل أحمد يوافق على قبول دعوته لقد وعده أن يستعدّ خلال دقائق للخروج معه.

كثيرٌ من الناس اعتاد الخلود في مكانه لأن هناك أزمة طافت بحياته وانتزعت الأمان وأحدثت شروخا بقلبه.

لكن ظلام الأيام وانتكاساتها تعلّمنا كيف نثق باليد التي تمسك بنا وتشدّ علينا بحب.

صرخ أحمد قائلا: إنها يد أمي لقد شعر بيدٍ تمسكه وتُنْهِضه من فراشه، الواقع يرفض ذلك لكن أحمد رأى أمه الميتة عادت للحياة سألها: أمي أما زلت بخير؟

أجابته:

نعم يابني أنا أمامكَ ياحبيبي، حيةّ أرزق.

بُني:

صديقك يوسف بالباب قم وحادثه واخرج معه فأنت نائم منذ عودتك من امريكا.

وقف أحمد مذهولا وهو يرى أمه تحادثه. إلّا أنّها ربتت على كتفيه ثم حضنته قائلة: لقد نجوتُ بأعجوبة من ذلك الحادث اللعين. وأنا بخير الآن هيا يابني انهض لكن عليك ألّا تخبر أحدا بعودتي قبل أن أخبرك أنا سبب ذلك.

أجاب بلهفة الطفل نعم لك ذلك يا أمي.

والآن قم ياحبيبي واستمتع بوقتك مع صديقك.

لكنني لا أستطيع الخروج وتركك بمفردك في المنزل، لقد اشتقت لك كثيرا وأريد الجلوس بجانبك ومع إقناع أمّه له بالخروج وافق مرغما.

لم تمضِ لحظات إلّا وقد طرق يوسف الباب مستعجلا أحمد في الخروج، مما جعل أحمد يسارع للاستجابة لنداء يوسف.

هناك أصدقاء يُحاكُون الأزهار، أو ربما قِطع الشوكولاته الفاخرة، يُبْرقون وسط العتْمة، يُضاهون القمر بأنواره، ويوسف من هؤلاء الأصدقاء القدامى الذين ربطتني بهم صداقة قوية. فكنّا أنا وإبراهيم ويوسف

شلّة واحدة في المدرسة تربينا سويا وجمعتنا مقاعد الدراسة لسنوات إلا أن الدراسة الجامعية جعلتنا نفترق فقد اختار إبراهيم الصين ليُكمل دراسته وفضّل يوسف إدارة أعمال والده الذي يملك مؤسسات وفنادق ضخمة، واخترتُ أنا إكمال دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية وبالرغم عن ذلك لم ينقطع تواصلنا طوال فترة دراستنا خاصة أنا وإبراهيم، إذ انقطعت عنا أخبار يوسف لفترات متباعدة وذلك لظروف عمله وسفره المتكرر للتجارة. أما إبراهيم فقد ظلّ على اتصال بي فهو صديقي الحقيقي فعلا؛ لذلك كنت أتمنى وجوده بجانبي إلّا أنّ فترة الحجر الصحي طالت أكثر من عشرة أيام.

لقد استمتعتُ بوقتي كثيرا مع يوسف، ولكنني كنتُ في لهفة للعودة لمنزلي ورؤية والدتي، فانتزعتُ يوسف من سهرتنا الجميلة وأعربتُ له عن سعادتي برفقته غير أنني متعب وأرغب في العودة سريعا.

لم يكن من يوسف سوى الإذعان لي وخاصة بعد أن تأخر الوقت، فلم يتركني إلا بعد أخذ الوعود مني بتكرار هذه السهرة الجميلة.

وصلتُ إلى المنزل اتجهتُ سريعا إلى والدتي التي رأيتُها في مكانها الذي اعتادت الجلوس فيه بين كتبها وأوراقها. وما أن رأتني حتى أخذتني في أحضانها وهي تقول:

بني لقد تأخرتَ عني لقد اشتقت لك، حدثني كيف استمتعت بوقتك؟

قلتُ لها:

وأنا أيضا يا أمي اشتقت لك كثيرا، كنت أسابق خطواتي للعودة لكِ، لاتعلمين كم كانت سعادتي كبيرةعندما رأيتك مجددا بنفس مكانك المعتاد تقرئين هوامش ميخائيل نعيمة تارة وتحادثين طه حسين تارة أخرى.

أمي:

أرجوك انتبهي لنفسك جيدا فأنا أخشى حياة تخلو منك.

- لا تخشَ شيئا يابُني فأنا بجانبك ولن أتركك أبدا، منذ أن خرجت للحياة وأنوارك تراقص حياتي بني.

- أحبك أمي ويظل حبي لك ليس نظريّا على حافة الأقلام، وإنما نبض حياة يتسارع في القلوب.

حسبك يا أمي إحساسي بالأمان في أحضانك، وحسب قلبي أنه لا يُجيد الفرار أمام سطوة قلبك.

لقد غفوتُ بجانب أمي تلك الليلة وهي تحكي لي قصصا جميلة كطفل يناغي قُبلات أمّه.

كنت أجلس مع أمي ساعات طوال نتسامر معا وأحكي لها تفاصيل حياتي التي قضيتُها بعيدا عنها، كانت تستمع لي كعادتها وتشجعني وكنا نختار الوظائف المناسبة التي تقدّمت بالطلب عليها.

عشت أجمل أيام حياتي مع أمي وتلقيتُ خبر توظيفي في إحدى الشركات الكبرى.

لم تساورني الشكوك يوما بأنني كنت أعيش وهما كبيرًا بل قل مرضًا إلى أن جاء اليوم الذي حضر لزيارة صديقي إبراهيم.

لقد عرف إبراهيم من يوسف أنني أقوم بالحديث مع نفسي لفترات طويلة لأنه لاحظ ذلك عندما كان يتردد على

منزلي، لذلك دخل إبراهيم متلصصا لمنزلي وفعلا رآني وأنا أحادث أمي

أو بمعنى آخر أحادث الوهم بداخلي الذي تجسد بصورة أمي، ليلتها كنت أتحدث مع والدتي عن الأمن السيبراني ومدى حاجتنا إليه لضمان أمن وحماية الأجهزة والأنظمة الرقمية الموجودة على الانترنت.

وأحلق في سماء أمنياتي في إكمال دراساتي العليا بمجال يقرب لـ «Cyber Security» ومع تبادل الأحاديث مع نفسي تعمقت بخيالٍ صوّر لي أمي حقيقة لأنني كنت أرفض أن تكون ميتة وأعشق نسائم تجمعني بحبٍّ ليس له مثل وقد خسرته.

تابعت الحديث مع أمي وقلت لها:

نحن في زمن يتسارع فيه استخدام شبكات الاتصال الرقمية حكومة وأفرادا مما يتطلب حماية من قبل مختصين في الإنترنت يتصدون للمخاطر الإلكترونية الممكن حدوثها على هيئة هجمات تنمريّة يهدف منها أصحابها لتعطيل أو إيقاف خدمات حكومية أو تهكير أنظمة بعض الحواسب الآلية بغرض تدمير ملفات حساسة أو العبث في محتويات بياناتها.

كنت أسمعها وهي تقول:

باستطاعتك أن تُبدع ياعزيزي، ومجموع أمنياتك حسابها جدا بسيط في ضوء تضاعف حماسك وشوقك بُني.

نعم يا أمي نسيت أن أقول لك أن العلم بسط كل الإمكانيات لنهضم جميع التصورات المتجددة في عالم السيبرانية.

توسعتُ في حديثي مع أمي كثيرا وتابعت قائلا:

لقد تم إنشاء الهيئة الوطنية للأمن السيبراني من أجل حماية أمن المملكة المعلوماتي، ومن أجل اكتشاف ورعاية المواهب الوطنية الواعدة والمبدعة في مجال الأمن السيبراني تم كذلك إنشاء الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة.

لقد أيقظني من أحلامي المبعثرة صوت صديقي إبراهيم يناديني: افتح لي الباب سريعا يالغالي أنا جاي مع كورونا.

كعادته إبراهيم الصديق الصدوق أن صحّ التعبير يحمل روحا مرحة تفتك بالحزن مهما كان حجمه.

صحبني ليلتها وقطعنا أشواطا زمنية بعيدة وأنا أحادثه تخللتها مغامراتنا الدراسية مرورا بنزوات إبراهيم الصينية العابثة حتى وصلنا إلى مرافئ حجْره الصحيّ إبان عودته من الصين وحجم المعاناة التي تعرض لها لتتغير دفة حديثه لوجهة أخرى قائلا:

أحمد هل هناك أحد يُقيم معك في منزلك؟

نظرت إليه بدهشة وفي وسط موج هائل من القلق والحزن صادفت إبراهيم فغطاني بسُتْرَة من الأمان وكأنه يحثني على الاسترسال في الحديث دون مقاطعة.

قلت له بانكسار: إبراهيم أمي هنا تظهر لي أحادثها وتستمع لي، تفيض عليّ بوابل من العطاء كعادتها، هنا في كل مكان في منزلي أجدُ أمي، يصرعني الألم عندما أفقدها للحظات لكنني أراها شاخصة أمامي تداعب خصلات شعري، ترمقني بنظرات الحبّ العتابية عندما أتأخر عنها.

ردّ إبراهيم بهدوء يستحثني على الحديث: ياصديقي الذكريات تعبث بساعاتنا، بعقولنا، بأيامنا، وقد تدفن بأعماقنا أحبابا عشقنا الحياة معهم ويرفض قلبنا حينها الانصياع لصوت العقل.

تابعت حديثي وإبراهيم ينظر لي بنظرات كنت أُخالها تتحدث بحروف صامتة فالبعضُ يحتاج إلى رعاية عاجلة لايتحمل وقوف ألم الحياةِ عند رجليه.

لاتجادله في آلامه، دعه يغادر دفّة الحديث بمحض إرادته يتحدث حسبما يحلو له.

قلت له إبراهيم ألم ترَ أمي أو تسمع صوتها قبل دخولك المنزل؟

رد إبراهيم: عزيزي أحمد وددت رؤية أمك وكم كنت بشوق عارم لرؤيتها لكن القدر حال دون ذلك حزنت كثيرا يا صديقي عندما سمعت خبر موتها و

قاطعني بشدة قائلا: لكنها لم تمت، وأخذ يصرخ أمي أخرجي أرجوك إبراهيم يريد رؤيتك، نبرات صوته الحزينة متلاحمة بدموع عينيه أخرجت حديثا بداخلي يجزم بأن الموت حيلة بارعة يصعب علينا فكاك رموزها. مالبث أحمد بعدها ثم عاد وانحنى تحت قدميّ يُلملم ماتبقى من شوق لأمه، إبراهيم قل بحق صداقتنا ألم تلمح أمي بالجوار؟

قال إبراهيم: لكن هيهات أن يعود الأموات

وبعد حديث طويل يحمل بين طياته الكثير من الخيوط المبعثرة، ويجتاز عتبات الوداع

عرفتُ أنني مصاب بحالة قلقية وسواسية، أقوم من خلالها بالاسترسال في أحلام اليقظة وإدارة حوار بهلوسة كاذبة، لقد قمت بإنشاء مدينة خيالية تقطن عالمي وجعلت أمي محورها وبطلة في أحلامي

قَرُبت الكلمة أم بعُدت عن القلب هي كالغيث لن تعجز عن إزالة الألم.

خضعت بعدها للعلاج عند طبيب نفسي بمساندة صديقي إبراهيم الذي كان عونا لي في كل شيء وبرغم خسارتي لوظيفتي الجديدة إلّا أنه لم يداخلني اليأس من الشفاء وخاصة عندما طمأنني الطبيب بأنها حالة عابرة وستزول مهما احتدم الجدال في أعماق النفس، لقد رأيت الكثير من الملفات الطبية التي يخضع أصحابها للعلاج النفسي جرّاء صدمات عاطفية.

وفي الجانب المظلم ظهرت لي سنوات عمري التي سوف تضيع إذا لم أواظب على العلاج.

ضحكت عيناي عندما رأيت أختي حنان فقد عادت من سفرها مع زوجها قبل موعد الحجر المنزلي بفترة بسيطة، وسكنا مع أولادهما في منزل العائلة مما ساعد في شفائي من تلك الصدمة لقد أغدقت عليّ حنان الكثير من الاهتمام أخرجتني من الوحدة وعادت تصفق لي كما تفعل ونحن صغار.

امتلأ البيت أنسا ومحبة ومازالت الحياة تصارع معي فقْد أمي بينما كان إبراهيم وحنان يشحذان عزيمتي إصرارا وأملا بمستقبل أفضل.

لقد قررت السفر لإكمال مشواري العلمي وبعد انتهاء زمن كورونا ذلك الزمن المخيف الذي زار البشرية وحصد مئات الآلاف من الناس، لقد عادت الحياة كما كانت، وغدت بلادنا نظيفة من ذلك الكورونا اللعين، لقد عادت الحياة من جديد وبدأت شمس العالم تطلّ علينا مُجددا دون خوف، وعاد الطلاب لمقاعدهم الدراسية، واكتظت الشوارع بالسيارات إيذانا بحياة جديدة.

في مفترق من الطرق وفي زحمة العمل الذي نشهره لقتل الوقت صادفتُ أمل وكنت عندها أنهيت دراستي العليا في أمن المعلومات والجرائم الإلكترونية وتقلدت منصبا لابأس به في إحدى الشركات الكبرى كانت أمل تجذبني بحجابها الأنيق وابتسامتها الرقمية الرائعة، لقد استطاعت أن تقف فوق خشبة المسرح بمفردها لأشاهد من خلالها فصولا رائعا من الكمال العقلي الذي كنت بحاجةٍ إليه.

يراودني الشبه الكبير بينها وبين أمي، لقد اشتقت لأمي كثيرا وفي خضم تلك الأحداث كنت أتمنى أن أتزوج بامرأة تشبه أمي وأُنجب فتاة جميلة مثل أمي.

خذيني بجانبك وأسعفي قلبا أحبّك لانجاذب الشبيهين فالطريق طويلة ورائحة أمي عبقة تقوى يوما بعد آخر بجوارك عزيزتي.

خذيني بأحلام العاشقين، لا أجد الكلمات المناسبة لأصف لك أيها القارئ مدى الشّبه بين أمل وأمي سوى أن الحياة عادت لي من جديد بأحداث جديدة تحمل اسم أمي في ابنتي الصغيرة.

بين الفينة والفينة أنقر على أبواب الذكريات لتخرج أمل من مخدعها تذكرني بابتسامة أمي فأعانق فيها نُخبة الأيام السعيدة وكأنيّ حديث العهد بها.