آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

حضنُ عليٍ وشمسُ هشامٍ!

حسن المصطفى * صحيفة العربية

ربما الحنينُ، ذلك الذي حَملكَ على جناحِ السرعةِ إلى النجف. هنالك اثنان تعشقُهما: أُمكَ، وعَليٌ!

تتوسدُ صدرَ السيدة الجليلة، كطفلٍ يأنسُ بصوتِ أُمه وأغانِيها، تلك النخلةُ العراقيةُ الباسقةُ، التي شهدت مقتل زوجها وثلاثة من أبنائها، ورَفعت يَديها إلى السماءِ: اللهُم تَقبل مِنا هذا القُربان.

كان النهرُ محملاً بالوجع، والعائلةُ تتحلقُ حولهُ كالفراشاتِ تُداعب النورَ والنار، تنتظرُ شمساً ولو آفلةً تشرقُ بشيءٍ من نورها على السطح، الذي ازدحم بالأحمرِ القاني، بكل ما فيه من بهاء يُعمي العيون، ويُكحِلها بالوجعِ المديد.

أَتى والدُك في البدء، ساكناً، وهو الذي رفضَ بقوةِ العربي الفارسِ الشهم الأبِي، أن يُسلم نفسهُ ومالهُ وأرضهُ للغزاة التكفيريين؛ تلاه أخوتك: هيثمٌ وعليٌ، إلا أن ”صادق“ تأخر، وبكتهُ المُقلُ ثلاثينَ صباحاً، حتى بان من أشعلَ جمرَ الوجع الذي لم تخمد ناره: جسدٌ نهشتهُ وحوشِ النهرِ وغيلانه!

تلكَ المُزدانة يديها بعشقِ العراق، التهمها السواد، لتُسرع إلى أحبابها بعد نحو ثمان سنواتٍ عجافٍ على فقدهم. لتسقطَ مقلتاكَ كشهبٍ من السماء محترقة، وهي تنطفئ في تُراب الرحيل.

كان الشوقُ راحلتكَ لها. صرت تُقيم النذُور، وتقدمُ القرابين، وتُطعم الجائعَ والفقير، باسمها. رفعتَها رايةً عاليةً، وأبيتَ إلا أن تَمسح الدمَ عن قديمها المتشققتين عذاباً وصبرا.

أنت الآن معها، في ذات المتكئ، وبقربكما عليٌ، يرى وجههُ في محياك، ويتلمس نبلهُ في شمائلك، وربما، بل لأٌقٌل الأكيد، أنها نزلت من قلبه دمعةٌ أو ربما هطلت غيمة!

القدحُ في يمين عليٍ، والنخبُ يُرفعُ لك عالياً، كأساً من ”كوثرٍ“، عسلاً زلالاً نقياً تثملُ له الأرواح؛ فيما تلك السيدة التي أحبتكَ، صوتُها يوقظُ السماءَ بفَخرِها بك، والزغاريد تطربُ لها الحور راقصات، وهي تردد: جاء هشامٌ من له الأرواح ترخص.

بين هشام الهاشمي، وعلي بن أبي طالب صِلة. الأولُ عمِل للسلم الذي أرادهُ عليٌ ”لأُسالمنَ ما سلمت أُمور المسلمين“، والثاني يتوجعُ من المليشيات التي رفعت السلاح وسَفكت الدم زوراً باسمه، وهو منها براء.

يناديك، أن إِليَّ: أنتَ ابني، وقميصُك الممزقُ قميصي. حُضنيَّ بيتكَ وحصنُكَ الحصين: قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى.

يدُ عليٍ بيد هشام، والقتلة معقودَةٌ رقابهم بالعار!

ها أنا يا صديقي على ذات الطاولةِ التي هبطَ عليها وحيُ رحيلك. أرسلَ لي صديقنا حارثاً: الخبر صحيح! بعد أن كُنا في لُجة من الشكِ الذي تمنيناه لو لم ينبلج، أو كان مُسيلمة الكذاب هو الراوية.

من ذات المكان، والكرسي الذي لفتهُ الحيرةُ والرعشة، أعودُ لأخبرك: بقيتُ أتساءلُ لم أنتَ؟ لم اختارَ القتلةُ هشاماً: النسمةُ، النبيلُ، الأنيقُ، الودودُ، البشوشُ، الكريمُ، العالمُ، المسالمُ، الشُجاع، الصادقُ، الواضحُ، والشفاف!

كُنتَ ترفضُ حتى حملَ سلاحٍ يحميكَ من الغدرِ، وتقول: ماذا أفعل بالحديد، اللهُ هو الحامي، وإذا أتى قدري، لن يحميني شيء.

كنتَ تقبضُ على يقينٍ لا نملكهُ جميعنا. وكنتَ الصوفي العارِف الذي كان الله في قلبه، فكنتَ لهُ، وبهِ، ومعهُ، وفِيه.

لم يكن تصوفُك إلا بوابة للقوةِ والصدقِ والإيمانِ بالكون الذي يتسع للجميع، دون أن تَستثني أحداً، حتى قَتلتكَ: إنا بعثناكَ رحمةً للعالَمين.

كُنا نتحدثُ عن أبي يزيد البُسطامي، وسَردنا سويةً شيئاً من حكاياه، ووعدتني عند لِقائنا في دبي، أن تفتحَ لي خزائنَ الحكمةِ لديك، وتعاهدنا، إلا أن الشوق أخذكَ إلى سدرةِ المُنتهى، وصرتَ هنالكَ نوراً محدقاً بالعرش، وتجلياً من تجلياتِ أسمائهِ الحُسنى.

بُحتُ لك بالعديدِ من أسراري، كيفَ لا، وأنت سيدُ السرِ والمعنى. وها أنا أهمسُ لك بفضلكِ عليَّ، حتى وأنتَ في سريرِ غفوتكَ السرمدي.

ليلتها، أكلتني الحيرة، البكاءُ والفجيعة، وشيءٌ من الغضبِ والحسرة. ركبتُ سيارتي، رتلتُ اسمك، وبه بسملتُ، وخرجت ناصيةَ شارع الشيخ زايد في دبي، وهو الطريق الذي كنت طوال 8 سنوات أهابه، وتتنازعني المخاوف والوساوسُ ما أن أكون فيه حتى وأنا لستُ من أقود المركبة، فنحنُ يا صديقي كما تعلمُ تمامَ العلمِ بشرٌ، في كل واحدٍ مِنا نقطةٌ من ضعفٍ ووهنٍ خفي!

ليلتها، خاطبتُ ذاتي قائلاً: أي جبانٍ أنت يا حسن، وما الخوفُ الذي يعتريكَ بعد هشام الذي قدم دمهُ وكان الشجاع.. وفعلاً، المخرجُ الذي كنت أتجنبهُ، ولجتُ فيه، وكان برداً وسلاماً، لأنك كنت حارسيَّ وملاكيَّ الأثير.

أخرجتني يا صديقي من دوامةٍ كنت أسيرها لسنوات، لا أتجاسرُ على مغادرتها، إلا أنكَ بابتسامتكَ كنت الطريقَ إلى السلام والخلاص.

بلسماً لأصدقائك، مسيحاً لقيامةِ العراق.

لكَ الخُلود، ولقتلتكَ حبلٌ من مسد!