آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

وقفة تأمل

سوزان آل حمود *

الله جل جلاله كلّف عباده بحسب مراتبهم، ودرجاتهم، ومصالحهم، فجعل لكل نبي شرعة ومنهاجا له، ولأمته، ولكل منهم خصائص بالنسبة الى اوصيائهم، كما جعل الله تعالى الملة الحنيفية السمحة السهلة لنبينا محمدا المصطفى صلوات الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولكن جعل له خصائص كثيرة تبلغ احدى وعشرين او ازّيد، وجعل لاوصيائه بالنسبة الى ما يتعلق بامامته ودعوته الى الدين احكاما خاصة مثبتة، «في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة. بايدي سفرة. كرام بررة» فجعل لكل واحد في ذلك تكليفا خاصا بيّنه لهم في صحيفة مختومة باثنتي عشرة خاتما من ذهب لم تمسه النار جاء بالصحف جبرئيل الى النبي «صلّى اللّه عليه وآله» قبل وفاته.

وقال: يا محمد! هذه وصيتك الى النخبة من اهل بيتك، قال «صلّى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم»: ومن النخبة؟ قال : علي بن ابي طالب ووُلده، فدفعها النبي «صلّى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم» الى سيد الوصيين عليا وامره ان يفك خاتما منها، ويعمل بما فيه، ثم دفعها الى ابنه الحسن ففك خاتما فعمل بما فيه، ثم دفعها الى اخيه الحسين ففك خاتما، فوجد فيه: ان اخرج بقوم للشهادة، لا شهادة لهم الا معك، واشرِ نفسك لله تعالى. اي بمعنى: بع نفسك لله، ثم دفعها الى علي بن الحسين «عليهما السلام» ففك خاتما فوجد فيه: اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.

النفوس المريضة، لا وجه غير التخبط بالآثام، ولا تهدف الى معنى يرمز الى الاستقامة، والضمائر لا حياة فيها ولا نبل، والعقول لا تفكر الا بالجحود والطغيان مجتمع ثائر على المعاني السامية ينفر من الفضيلة ويتهافت على الرذيلة كلما بدا في الافق بصيص من النور..

أنكر أتباع الإمام الحسين ذواتهم وذابوا في القيادة التي جسّدت المنهج الإلهي في واقعها المعايش، فلم يُبقوا لذواتهم أيّ شيء سوى الفوز بالسعادة الأبدية، فكان الإيثار والتفاني من أهم الخصائص التي اختصّوا بها. لمّا رأوا أنّهم لا يقدرون يمنعون الحسين ولا أنفسهم، تنافسوا أن يقتتلوا بين يديه. وقبل المعركة، وصل بُرير ومعه جماعة إلى النهر، فقال لهم حماته - بعد أن عجزوا عن قتالهم -: اشربوا هنيئاً مريئاً بشرط أن لايحمل أحد منكم قطرة من الماء للحسين، فكان جوابهم: ”ويلكم نشرب الماء هنيئاً والحسين وبنات رسول الله يموتون عطشاً لا كان ذلك أبداً“ وفي شدّة العطش، رفض العباس شرب الماء قبل الإمام الحسين ، وقال:

يا نفس من بعد الحسين هوني
وبعده لا كنت أن تكوني
هذا حسين وارد المنون
وتشربين بارد المعين

في كل نهضة هنالك قيادة وطليعة وقاعدة ترتبط بروابط مشتركة من أهداف وبرامج ومواقف، والقيادة دائماً هي القدوة التي تعكس أخلاقها على أتباعها، وفي النهضة الحسينية تجسّدت الأخلاق الفاضلة في العلاقات والروابط حيث الإخاء والمحبّة والتعاون والود والإحترام بين القائد وأتباعه وبين الأتباع أنفسهم، فالأتباع ارتبطوا بالقيم والمثل، ثمّ ارتبطوا بالقائد الذي جَسَّدها في فكره وعاطفته وسلوكه، فالأتباع تلقّون الأوامر بقبول ورضى وطمأنينة. ومن هذه القيم كان الإمام الحسين يخاطب حامل لوائه وهو أخاه العباس: ”يا عباس اركب بنفسي أنت“

ونتيجة لهذا الترابط الروحي بين القائد والأتباع، رفض الأتباع أن يتركوا الإمام الحسين لوحده بعد أن سمح لهم بالتفرُّق عنه، فهذا مسلم بن عوسجة يخاطب الإمام قائلاً: ”أما والله لو علمت أنِّي أُقتل ثمّ أحيي ثمّ أحرق ثمّ أحيي ثمّ أذرّى يفعل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك“

بما أن الإنسان كائن أخلاقي: أليس هو وحده من يتحمل تجربة المسؤولية وتجربة التمييز ثم الاختيار بين الخير والشر؟ أليس منوطاً بالعقل نفسه أن «يعقل» ويمنع الإنسان من النزول إلى درك البهيمية وحضيض الأنعام كي يرقى إلى رتبة القيم الأخلاقية التي تصير وحدها علامة على «إنسانية» صاحبها؟

أن السلوك الأخلاقي قرينٌ بالمعتقد الديني حتى في صورته البدائية، مما ينهض دليلاً على استحالة فصل الأخلاق عن الدين جملة؛ فقد تجد مذاهب فلسفية أو فكرية لا تعير اهتماماً لضوابط السلوك الأخلاقي، ولكنك لن تقع على دين يخلو من قيم أخلاقية يعتبرها شرطاً للانتساب إليه والوفاء بمبادئه.

عندما نتأمل في كلمات الإمام الحسين ومواقفه منذ بداية نهضته المباركة إلى حين استشهاده سلام الله عليه، فإننا نستخلص فوائد كثيرة ومسيرة حياة عامرة وقيم مبادئ خلقية رفيعة، فمتى ستقرر تغيير نفسك طبقا لمآثر وقيم واخلاق الحسين لإصلاح واقعك وتغييره ونشر المعرفة والتلاحم الوطني، وإثبات المعلومة الصحيحة؟!