آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

الدالوة... يوم كَسَرَ السُعُوديُونَ الإِرهَابَ!

حسن المصطفى * صحيفة العربية نت

كان يسيرُ في طريقه من المنصورة إلى العمران، بمحافظة الأحساء، شرق السعودية، مساء يوم التاسع من شهر محرم، عام 1436 هـ ، الموافق 3 تشرين الثاني «نوفمبر» 2014.

السيارة لم تكن له، أخذها من صديق، فجأة، تصطدم به مركبة، ظن الحادث عرضياً، ترجل ليستوضح ما الذي حدث، إلا أن الرصاصات كانت أسرع، ليعود ”عادل حرابة“ إلى السيارة، لا على كرسي القيادة، بل مسجياً في الصندوق!

الشاب الذي امتهن الميكانيكا، لم يكن يعلم أن قلبه الذي توقفت دقاته في منتصف الثلاثينيات من العمر، هو الآن على موعدٍ مع حدثٍ ضخم، سيسمعُ أزيز رصاصه وهو متوسدٌ غيمته في السيارة التي استخدمها الجناة لتنفيذ عمليتهم.

مهرُ الدماء!

كانت الساعة تشير لنحو الحادية عشرة ليلاً، والقتلة يعتقدون أنهم يسيرون نحو الحورِ الحسان اللواتي يطربن لرائحة الدم والبارود. كانت الأهازيج التي تربى عليها التكفيريون تدغدغ المشاعر ”هبت هبوب الجنة، وينك يا باغيها“!

شبابٌ متحمسٌ مُلِئ قلبه كراهية لشركاء له في الوطن. ولذا، النتيجة كانت: جنداً مجندةً لدى ”داعش“، الذي أراد أن تعُم الفوضى في السعودية، وأن يتقاتل الإخوة، بسلاح الطائفية، وتشتعل مواجهاتٌ بين السنة والشيعة، لأن التنظيمات الراديكالية لا تسودُ إلا في أجواء الخراب. الاستقرار، الرفاه، الحداثة، المدنية، التنمية، كلها قيمٌ إن تحققت لن يكون لحُكمِ ”القاعدة“ أو ”داعش“ من سبيل، ولذا: يجب أن يُقوضَ الهيكلُ على رؤوس القومِ، وأن يُجعل عالِيها سافِلها!

اختار القتلة هدفاً رخواً، حسينية ”المصطفى“ في قرية ”الدالوة“، شرق السعودية. صمتتِ المنابرُ وهدرتِ البنادق، فكانت المحصلة سبعة قتلى، وعدداً من الجرحى.

لم يكن التوقيتُ بريئاً، ليلةُ العاشر من المحرم، أي ذروة إحياء موسم عاشوراء لدى المسلمين الشيعة، وكأن القتلة يريدون أن يقولوا: ها نحن نُطهرُ بلاد الحرمين من المبتدعة.

أنباءُ الفجيعة

رائحة الدم انتشرت، كانت أسرع من أي بَرق، فعملية إرهابية كهذه، غير مسبوقة في تاريخ المملكة الحديث، شكلت صدمة لجميع السعوديين بمختلف تنوعاتهم الثقافية والمذهبية والمناطقية.

كنتُ ساعتها في ساحة القلعة، بمدينة القطيف، عندما بدأت الأنباء تتوارد تباعاً. اتصلتُ بالشاعر الأستاذ جاسم الصحيح، لأتثبت من الخبر، ليجيبني مؤكداً أن الدم أُريق.

النفوس مشحونة، والعواطف جياشة، لذا، كانت هنالك خشية من حدوث ارتدادات سلبية واسعة للجريمة.

اتصلتُ بشخصية رفيعة في ”مجلس الأمن الوطني“ السعودي، لم يجبني مباشرة لأن الوقت كان متأخراً. إلا أنه تالياً تواصل معي، وكانت الدهشة ترتسمُ على الوجوه. فالجميعُ أمام مسؤولية كبيرة لحماية الوطن من الفتنة.

تغليبُ الحكمة

ظهر يوم العاشر من المحرم، كنتُ والعضو السابق بمجلس الشورى السعودي الأستاذ محمد رضا نصر الله، والأستاذين شكري الشماسي، وعصام الشماسي، في حسينية ”السبطين“ بحي الناصرة، والكل يبحثُ ويفكر ما الذي يجب عمله.

هنالك فتنة أراد الإرهابيون أن تعم بين السعوديين، والأولوية الآن: وأدُ الفتنة في مهدها، حفاظاً على كيان الدولة، وتعزيزاً للسلم الأهلي، واحتراماً لدماء الضحايا والجرحى.

تولى الأستاذ عصام الشماسي صياغة البيان، بعد الاتفاق على عدد من نقاطه، ووقعه تالياً رهطٌ من مشائخ القطيف، ومن بينهم القاضي السابق الشيخ عبد الله الخنيزي.

البيان أكد أهمية ”اللحمة الوطنية واستتباب الأمن وتفويت الفرصة على العابثين بأمن هذا الوطن العزيز، وإخماد نار الطائفية البغيضة، ونشر ثقافة المحبة والتسامح وبث روح الأخوة والاحترام“، مشدداً على ضرورة ”تغليب المصلحة الوطنية العامة، والتمحور حول القيادة الراشدة، واجتثاث خطاب الكراهية والتحريض“.

أثناء صياغة البيان، كنتُ على تواصل مع المسؤول الرفيع ب ”مجلس الأمن الوطني“، الذي بارك موقف علماء القطيف، واعتبره يمثل ”الروح الوطنية المسؤولة“.

وبالفعل، بعدها نُشر البيان في وكالة الأنباء السعودية الرسمية، وتناقلته وسائل الإعلام المحلية والدولية، وشبكات التواصل الاجتماعي، وشكل ردة فعلٍ مبكرة سريعة وهادئة، رفدتهُ مواقف عقلانية وشجاعة من شخصيات وعلماء عدة في مناطق متنوعة من المملكة.

الأحساء، هي الأخرى، أصدرت أكثر من خمسين شخصية بياناً، اعتبروا فيه أن ”هذه الجريمة تستهدف تمزيق وحدتنا ولحمتنا الوطنية والإسلامية، وبالتالي علينا أن نفوّت عليهم فرصة استثمارها بمزيد من الوحدة والتلاحم الوطني“.

الشيخ حسن الصفار، من جهته، رأى أن ”الرد المطلوب على هذه الجريمة النكراء يتمثل في تعزيز التلاحم والتعايش الوطني عبر نشر ثقافة التسامح، وتجريم التحريض على الكراهية، وإدانة الشحن الطائفي، ورفض ممارسات التمييز والإقصاء“.

مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، كان سباقاً في إدانته للعملية، حيث أشار إلى أن ”الدين الإسلامي بريء من أعمال مثل هؤلاء المفسدين الذين يحاولون إشعال الفتنة بين المسلمين، خاصة بين أبناء المجتمع السعودي“.

صحيفة ”الوطن“ السعودية، نقلت عن د. توفيق السيف إشادته بموقف المفتي وهيئة كبار العلماء، معتبراً أن البيان كان ”حازماً، واستخدم لغة واضحة في التنديد بما جرى في الدالوة، وهو ما يبعث برسائل اطمئنان لأبناء المجتمع على اختلاف مشاربهم، أن الدولة ومؤسساتها بلا استثناء تقف وقفة واحدة ضد كل ما يزعزع استقرار البلد والنيل من مكتسباته منذ تأسيسه“.

الموقف الرسمي، هو الآخر، كان سريعاً واضحاً وحازماً منذ البداية، حيث زار محافظ الأحساء الأمير بدر بن محمد بن جلوي المصابين في المستشفى، واستقبل أمير المنطقة الشرقية سعود بن نايف بن عبد العزيز آل سعود، وفداً من أهالي الدالوة، نقل لهم تعازي القيادة السعودية، وأكد في حديثه أن ”هذه البلاد ولله الحمد كالجسد الواحد، وهي قادرة على التغلب على كل ما يحدث من محاولات للتفريق بين أبناء هذه البلاد“. فيما كانت الأجهزة الأمنية تجري عمليات مسحٍ شاملة في أكثر من مدينة، للقبض على الجناة.

الروح العابرة للمذاهب والمناطق والقبائل، شكلت رافعة لوعي جمعي لدى شريحة واسعة من السعوديين، الذين تقاطروا للعزاء، وشاركوا في مراسم التشييع، التي غصت بعشرات الآلاف من مختلف المدن والأعمار، وفي بعض التقديرات جاوز العدد ربع مليون شخص، بحسب إحصاء لجنة تنظيم المراسم. وهي المراسم التي وحّدت السعوديين على قلب رجل واحد، وبقي الشعار الأثير الذي رفع، حياً حتى الساعة ”إخوان سنة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعه“.

العدالة للضحايا

أهمية استذكار هذا التاريخ، تأتي في سياق الأحكام التي أصدرتها المحكمة الجزائية بالرياض، في شهر تشرين الأول «أكتوبر» الجاري، بحق مجموعة من المتورطين في ما عرف ب ”خلية الدالوة“، المرتبطة بتنظيم ”داعش“، حيث قضت المحكمة بإقامة حد ”الحرابة“ أي القتل بحق 9 أشخاص، وسجن مجموعة آخرين لمدد متفاوتة.

القضية كانت معقدة، والخلية التي أُلقي القبض عليها حينها، ضمت نحو 77 شخصاً مشتبهاً في علاقتهم بأعمال ”إرهابية“ مختلفة، من جنسيات سعودية وعربية، كانت تتلقى تعليماتها من عناصر داخل المملكة، وأخرى خارجها.

مصدرُ أمني يشير إلى أن الملف تم التعامل معه بوصفه ”قضية أمن وطني“، وبالتالي نالَ أهمية بالغة، لأن الذين تضرروا، ليسوا أفراداً من مذهب محدد، بل هم مواطنون سعوديون، حصل عليهم اعتداء مقصود، له أهداف محددة، تروم ضرب الأمن والاستقرار وإحداث احتراب طائفي، وانتهاك حرمة المواطنين.

هذا النوع من القضايا المتشابكة، خيوطه متفرعة، وكل فرد يتم القبض عليه يفتح أبواباً لمعلومات جديدة، وأسماء بعضها يكون معروفاً، وأخرى مجهولة؛ فضلاً عن أدوار ومهام تبتدي ملامحها في الوضوح يوماً بعد آخر مع التحقيق الذي يطالُ جوانب عدة.

الجريمة التي وقعت عام 2014، وصدرت أحكامها العام الجاري، أي بعد نحو 6 أعوام، شاهدٌ على أن السعوديين قادرون على تجاوز المحن، وأن خطابات التكفير والكراهية والعنف، لن تكون ذات أثر كبير، عندما تكون هنالك إرادة وجهد حكومي مدني وأمني، ووعي شعبي، وعملٌ أهلي، ما يؤسس لمشهدٍ متكامل، يعاضدُ بعضه بعضاً.

ضبطُ الخطاب

صحيح أن المشوار طويل، وعملية البناء والتغيير الفكري والمفاهيمي، وتحديداً المرتبط بالعقائد، يحتاج لوقت، إلا أن السعودية اليوم تعيش انضباطاً أكثر في الخطاب الديني، سواء في دور العبادة أو وسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام الكلاسيكي، أفضل مما كان عليه الوضع إبان وقوع هجوم ”الدالوة“ الإرهابي، وهذا الإنضباط مردهُ الإجراءات الرسمية من جهة، والإعياء الذي أصاب جمهوراً واسعاً من السعوديين نتيجة المماحكات الطائفية التي لا جدوى منها، ورغبتهم في العيش بسلام والمشاركة في عملية الإصلاح والتغيير، وتأمين حياة كريمة للأجيال الجديدة؛ خصوصاً أن هنالك إرادة ملكية واضحة وصريحة في ترسيخ مفهوم ”المواطنة“ كأساسٍ جامع، بعيداً عن أي تصنيف أو تمييز على أساس المذهب أو المنطقة أو القبيلة، كي لا تعود من جديد فتاوى القتل والتحريض، والتي هي بوابة رئيسة للعنف والإرهاب، الذي يرفضُ السعوديون أن يفسد عليهم حيواتهم.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
محمد عبدالمحسن
[ الدمام ]: 12 / 9 / 2020م - 6:45 ص
هؤلاء الإرهابيون الذين أقدموا على تنفيذ هذه الجريمة النكراء، هم مجرد أدوات لمحرك خبيث " الأثر يدل على المؤثر" لكن العقلاء تصدوا بشجاعة وقوة إيمان لتفويت الفرصة وذلك بوأد الفتنة في مهدها.
الجميع يدرك إن الفتنة إن وقعت - لا سمح الله - فلن يكون أحد في مأمن.
تقديم هؤلاء المجرمين إلى العدالة، وإستصدار أحكام قطعية، وتسريع تنفيذ العقاب المستحق يعطى الطمأنينة للناس جميعاً أن هنالك راع حريص على سلامة وأمن العباد والبلاد..!!..