آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:08 ص

الإدارة الناجحة والمميزة

زكريا أبو سرير

تُعد الكتابة في موضوع الإدارة بمفهومها العلمي والتقني والعملي مهمة غير يسيرة. ولذلك أميل إلى الاعتقاد بأن من المستحسن الكتابة في هذا الشأن انطلاقا من التجربة الشخصية في العمل في هذا المضمار، وخاصة إذا كانت التجربة العملية ذات عمر طويل وغنية ومتنوعة. والسبب في ذلك أن من لامس وعاش أي تجربة سوف يكون أكثر فهما ووعيا لها ممن انتزعها من بطون الكتب، وأقلام مؤسسي تلك المفاهيم الإدارية الحديثة، لأن التجربة تكون أكثر وضوحا وفهما وإدراكا، والتطبيق في العادة يتيح فهما أكثر عمقا من القراءة النظرية.

في هذا المجال يمكن اعتبار ما خطه الكاتب والأديب المبدع المرحوم الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، نموذجا حيا في خوض هذه التجربة، حين كتب تجربته العملية والإدارية في كتاب أسماه ”حياة في الإدارة“ وقد حقق الكتاب نجاحا باهرا بين المهتمين في علم الإدارة والثقافة الإدارية، والسبب في نجاح هذا الكتاب، أن المفاهيم الإدارية الذي قدمها الكاتب كانت نابعة من روح التجربة، وليس مفاهيم نظرية جافة.

ولا يفهم من خلال الدعوة إلى قراءة أو كتابة التجربة الإدارية على أنها هي الوحيدة أو الكافية لفهم ومعرفة هذا المفهوم، دون التوجه لدراستها أكاديميا أو ثقافيا، واكتشاف تلك المفاهيم من أصحاب التخصص. بكل تأكيد هذا ليس مقصدنا من ذلك، بل نحن مؤمنون بأن العلم تصقله التجربة.

وهنا أعرض مفهوم الإدارة الناجحة والمميزة، من خلال تجربتي العملية التي تفوق الخمسة وعشرين عاما، أمضيتها في القطاع الخاص، بين ثلاث اماكن مختلفة في النشاط التجاري. هذه التجربة الغنية بالنسبة لي، كشفت لي وضوح هذا المفهوم، وعند قراءتي لمختلف الكتب المتعلقة بهذا المفهوم أي المهارة الإدارية الناجحة والمميزة، فضلا عن الدورات الثقافية الذي حضرتها في نفس المجال، تبين لي أن تلك المفاهيم لم تبعد كثيرا من حيث الجوهر، إلا أن الفارق بينهما وضوح المفهوم، أي أن هناك مفاهيم مصقولة بتجربة، وهذا يعني أنك لامست المفهوم وطبقته من خلال التجربة العملية، بخلاف المفاهيم التي تعوزها التجربة، وهذا هو الفارق الجوهري بينهما.

من باب خبرتي المتواضعة يمكن القول إن الإدارة الناجحة والمميزة، هي المنظومة الذي احتوت ما سطرته وطرحته تلك المؤلفات الكثيرة في علم الإدارة، على أنها بمثابة الرأس من الجسد، وهي من ترسم السياسات والإجراءات وهي القائد وهي المنسق والمخطط والمنظم والموجه والمراقب وهي من تتخذ القرار وهي المسؤولة لرسم الأهداف وتحقيقها وهي المسؤولة عن المخاطر وهي المسؤولة عن نجاح واستمرارية بقاء المنشأة، وهي المحاسبة الأولى عند فشلها في عدم تحقيق الأهداف، وغيرها من الأمور الإدارية المتعارف عليها ضمن النسق الأكاديمي والثقافي، كل هذه المفردات والمفاهيم الإدارية الجميلة، إذا أفرغ منها محتواها الإداري من التجربة الإنسانية أصبحت إدارة جامدة، بخلاف ما اذا كانت كل هذه المفاهيم وفق إدارة ذات إطار إنساني وبعد عملي فهي حتما ستكون فاعلة وإيجابية وناجحة.

إن الإدارة المميزة والناجحة تمتلك صفات اخلاقية، فهي الصادقة مع نفسها ومع فريق عملها، وهي القادرة على تأليف قلوب الفريق على قلب رجل واحد، وهي من تهتم بمصالح فريق العمل أو تضع مستقبل فريقها ضمن أولويات أهدافها، وهي السند الأول عند تعرض أي فرد من أفراد الفريق لأي مشكلة إدارية أو لأي ظرف قاهر، وهذا المنهج هو من يصنع الولاء عند فريق العمل.

إذن إذا توفرت هذه السمات الإنسانية في الإدارة أصبحت الإدارة ذات روح فاعلة، واستطاعت قيادة الفريق وتحقيق الأهداف وصناعة قائد مميز وفريق ناجح وأهداف محققة ومرضية.

في مقابل ذلك تتصف الإدارة الفاشلة غالبا بالاستبداد والمخادعة والكذب والتنمر بجميع أشكاله وألوانه. حيث تصبح فاقدة لروح الإنسانية ومفتقرة للفاعلية، لهذا لا تجدها مولدة لقادة ناجحين، وإنما فاشلين ومستبدين ومنافقين وأنانين وفاسدين وظالمين، ومثل هذه الإدارة لا تجد من بين طاقم فريقها روح الولاء أو الاهتمام بتحقيق الأهداف الخاصة والمرتبطة بالمنشاة، وذلك بسبب تشتت فريق العمل بين ظالم ومظلوم وبين مستحق وغير مستحق تسوده الكراهية والبغضاء والحسد، ويفتقر لروح المنافسة الشريفة، وغالب هذه الإدارة الفاشلة تحكمها للوبيات والمحسوبيات، ولا تستطيع العمل إلا وفق هذه البيئة الفاسدة، لأن هذه البيئة الموبوءة هي القادرة على تحقيق مصالحها الشخصية، لا مصالح المنشأة أو فريق عملها، إذ إن آخر ما تفكر فيه هو مصلحة المنشأة والمنسوبين إليها.

تمثل الإدارة سيفا ذو حدين، حيث إنها قادرة على كشف معدن الإداري الناجح وتعرية الفاشل، ومن خلال خبرتنا العملية، استطعنا أن التمييز بين القائد الناجح والآخر الفاشل. الإدارة التي تسعى بواسطة قائدها إلى تجفيف منابع المحبة بين طاقم الفريق، هذه الإدارة فاشلة ويقودها فاشل وفاسد، لأن الإدارة الناجحة تدرك سهولة قيادة أي منشأة وفق سياسة سلسة وخطوات واضحة، ولكن من الصعوبة أن تقود فريق عمل وهو يفتقر إلى الروح الإنسانية، بل الإدارة الناجحة هي من تربط أهدافها الاستراتيجية ضمن أهداف فريق عملها، بحيث يصبح أحد أهدافها الرئيسية دون الفصل بينهما.

وأي فريق عمل مهما كان نوعه أو حجمه، إذا عجز عن تحقيق أهدافه، فاعلم أن قائده فاشل، لأن فريق العمل سرعان ما سيكتشف وجه هذه الإدارة الفاسدة، بحيث يروا أن الأهداف الإدارية لا تخصهم ولا تمت للمنشأة بصلة، بقدر ما تخص قائدهم ذا السمات الأنانية، بحيث لو تحققت تلك الأهداف فإن القائد في ظنهم لن ينظر إليهم بعين التقدير والشكر والامتنان، وإن نظر إليهم وتنازل وتواضع قليلا فسوف ينظر إليهم بنظرة فوقية أو من على الشرفة.

إن الإدارة المميزة والناجحة، هي من تضع أهدافها بين يدي فريق عملها وهي مطمئنة وقريرة العين، وذلك لأن فريق العمل يرى نفسه هو المسؤول الأول عن تحقيق الأهداف، لأنه مطمئن ويتوقع جازما بل مؤمنا أن إدارته تجعل اهتماماته ضمن أولويات أهدافها، وهذا سر نجاح كل فريق عمل، وسر نجاح كل منشأة، بل هذا السر من النجاح ينسحب حتى على القطاع الثالث، الذي يعمل في المجال التطوعي، لأن كل فريق عمل إذا شعر أن هناك من يقدر عمله ويجعل له قيمة معنوية وإنسانية، فإنك تجده يقدم المستحيل لإنجاح أهداف المشروع، وكل ذلك يعتمد على مدى إنسانية وقدرة وإمكانية وذكاء الإدارة أو القائد. القيادة ليست مركزا تشريفيا كما يظن البعض، بقدر ما هي مهمة إنسانية وعملية بالدرجة الأولى، وكلما تمتعت الإدارة أو القائد بالروح الإنسانية ازداد نجاح المنشاة وتقدمها، وازدهرت حياة قائدها وحياة فريقه بالسعادة والولاء والتفوق والنجاح.