آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 8:59 م

الحق الواحد والحق المتعدد: هل تراه معقولاً؟

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

كنت قد أشرتُ في مقال الأسبوع الماضي «وفي مقالات سابقة أخرى» إلى مفهوم تعدديَّة الحق. ولاحظت أنَّ بعض القراء الأعزاء انزعج مما ظنّه مساواة بين الدين واللادين، بينما خلط آخرون بين التعدديَّة والنسبيَّة، أو افترضوا أنَّ للمفهومين معنى واحداً.

ويسعدني جداً أنَّ تلك الكتابات المتواضعة، قد شجَّعت النقاش في قضايا وثيقة الصلة بما ندعوه «الرؤية الكونية»، أي المفهوم الكلي للذات والعالم الذي يوجه تفكير الإنسان وتعاملاته وتطلعاته.

ولن أستغربَ لو عارض أكثرُ الناس المنظور التعددي، فنحن أبناء ثقافة أحادية، تعامل الاجتهاد المختلف كانحراف عن الجادَّة لا كاحتمال قد يخطئ أو يصيب. ولذا سأحاول توضيح مفهوم التعددية باختصار.

تنطلق التعددية الفكرية من فرضية أنَّ للحقيقة وجوهاً عديدة، بعضها جليٌّ وبعضها غامض أو مستور. ونحن نرى الواضح، فنتخذه دليلاً على المستور. لتوضيح الفكرة نستعير المثال التالي من الأستاذ مصطفى ملكيان: دعنا نفترض أن 100 شخص شاهدوا فيلماً قصيراً يبلغ خمس دقائق. وكان واضحاً في القصة وفي الصوت والصورة والألوان. لو سألت هؤلاء في نهاية الفيلم عن موضوعه، فإنَّ 90 في المائة سيتفقون على رأي واحد، أو ربما رأيين.

دعنا نفترض الآن حالة مختلفة: فيلم طوله ساعة، لكن بدايته ونهايته وبعض أجزائه الأخرى مقطوعة أو مشوشة، وكان الصوت غير واضح تماماً في هذه الأجزاء. لدينا إذن نصف فيلم واضح تماماً والنصف الآخر مشوش. فلنسأل المشاهدين في ختام الفيلم عن قصة الفيلم وموضوعه، فماذا تتوقع؟

ربما 100 رأي مختلف، وربما 50 رأياً مختلفاً، لكن بالتأكيد ليس أقل من هذا.

نحن نفكر في العالم الذي أمامنا، من أجل أن نطبّق عليه فكرة أو قيمة أو رؤية، أو كي نقارنه بمثال، أو كي نصفه ونفسّر أحواله، فما الذي نراه في واقع الأمر؟

لو كان عالمنا هو الفيلم ذا الدقائق الخمس، لما اختلفنا في إدراك حقيقته. لكن يا للأسف، ليس الأمر على هذا النحو.

عالمنا هو ذلك الفيلم الطويل، الذي نصفه واضح، ونصفه الآخر مستور وغامض. سوف نحاول دائماً الاستدلال بما نراه على ما لا نراه. سنحاول فهم المستور استناداً إلى الظاهر. لكن هل سيتوصل جميعنا إلى التفسير نفسه؟

إذا لم تكن واثقاً بالجواب، فخذ مسألة من مسائل التاريخ التي درسناها جميعاً في المرحلة المتوسطة، واسأل 10 أشخاص عما جرى فيها ولماذا. أنا أضمن أنك ستسمع 5 آراء مختلفة على الأقل، مع أننا جميعاً درسنا القصة نفسها في الكتاب نفسه.

معظم القضايا الكبرى مركبة. وهي تنطوي على قدر من الغموض، فلا تكشف عن نفسها لكل ناظر إلا بقدر. حين تنظر هذا العالم سترى شيئاً بعينك أو عقلك، وربما تستعين بعقل أبيك أو أستاذك، ستحاول تأليف فكرة تقيم معنى وقيمة لما تراه، أو ربما تطبق عليه معنى موجوداً في موروثك الثقافي.

سيفعل الشخص الآخر الشيء نفسه، وسيفعل عشرات الناس كذلك.

فأيُّهم يا ترى أصاب الحقيقة وأيُّهم أخطأها، أم ترى كلاً منهم أصاب جانباً من الحقيقة وليس كلها.

افترض أنك نفيت صحة كل الآراء سوى واحد «ربما لأنك افترضت أنَّ الله أمرك بهذا» فماذا لو كان موضوع الآراء المتعددة هو أمر الله نفسه: كيف ستنفي بعضها مع احتمال أن يكون بينها احتمالات صحيحة.

إنَّ الطريق الوحيد لضمان الإنصاف، هو احترام جميع الآراء باعتبارها احتمالات ممكنة، لكن من دون التزام أو إلزام بأي منها. أنت تحترمها وربما تناقشها كآراء، لكنك تلتزم - إن شئت - ما تظنه أيسر أو أكثر توفيراً للاطمئنان. وهذا ما يفعله كل عاقل.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.