آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 9:19 م

إنه الوقت شاهداً وشهيداً!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

«لا شيء أقوى من فكرة قد حان وقتها»، هكذا يقول فيكتور هوغو، فالاستجابة لحركة الزمان وحدها تصنع التغيير، وكم عانينا لأن أحدهم في الفكر أو الثقافة أو السياسة حاول أن يوقف حركة الساعة، أو يعيد عقاربها للوراء... فتركنا نتجمد في خنادق الماضي، وأكتفينا بالتلويح للسفينة التي أبحرت من موانئنا نحو المستقبل.

في كتابه «ها أنت، أيها الوقت: سيرة شعرية ثقافية» يغوص أدونيس في معجم الوقت، ليستعيد ذاكرة المكان، وسيرة الزمان؛ أسماء وشخصيات صبغت بواكير ولادته الشعرية، وخطوط كتابته الأولى، شهد خلالها نبوغ الشعراء كيوسف الخال وبدر شاكر السياب ونزار قباني، لكن المحطة الأكثر إشراقاً في هذا الكتاب حين يسرد سيرة المدن، حين كانت القاهرة تشهد في القرن الماضي «صراع المعاني» ومعارك «التحرر» وتأكيد الهوية، وكانت بيروت على عكسها تشهد «انشقاقاً في الهوية» فقد أصبحت هذه المدينة «مكاناً للسؤال»، وموطناً لـ «إفساد كل شيء»، بلد التناقضات، حيث «الثقافة تأخذ بالانفصال عن الثقافي وتتحول إلى نوع من السحر الأسود» و«السياسة تأخذ بالانفصال عن السياسي وتتحول إلى نوع من التآكل المفترس»... وحيث استشرى العنف لأن «السياسي تغلب على الثقافي»... لينتهي إلى «هكذا صار الوطن في مستوى الملجأ. وإن وطناً في مستوى الملجأ ليس إلا اسماً آخر للقبر...».

سلط أدونيس مجهره على عامل الوقت... فالوقت عربة التحول، يصيغ الإنسان من جديد، من يتوقف يفقد حتى هويته، يقول أدونيس في هذا الكتاب: «الهوية تفتُح بلا نهاية. فأنت لست أنت لمجرد أن لك اسماً خاصاً، ولغة مختلفة، وقومية مختلفة. أنت أنت لا بما كنت، بل بما تصير... تكون الهوية صيرورة، أو لا تكون إلا سجناً».

الأكاديمي السعودي الدكتور معجب الزهراني، أصدر العام الماضي كتاباً رائعاً باسم «سيرة الوقت»، هي مزيج من السيرة الذاتية: سيرة الفرد في علاقته بالجماعة، وسيرة جماعة يمثلها الفرد ويحكي تجربتها. من قرية «الغرباء» جنوب غربي السعودية، حيث نشأ حياة ريفية بسيطة، إلى باريس مدينة النور وعاصمة التنوير في قلب أوروبا، يفتح الزهراني عينيه على سيرة التحول التي شهدتها الأرض وعاصرها الإنسان، كيف تحولت الروابي الخضراء في جنوب البلاد إلى حاضنة للتطرف، وحاصدة للتشدد... وكيف أصبحت باريس مسكونة بوحوش التطرف القومي والديني... كيف تجمد الزمان أمام حركة المغول الجدد الذين نابذوا الحداثة والتنوير والتقدم العداء.

معجب لا يروي سيرته في هذا الكتاب، بمعزل عن حكاية جيل شهد تحولات كبرى، تضج بالحركة ولكنها حركة لولبية لا تغادر مكانها... لذلك شعر بالغربة في قرية الغرباء، وفي الجامعة، وحتى في فرنسا التي احتضنته عشر سنوات «1979 حتى منتصف 1989»، ثم عاد إليها في 2011 مديراً لمعهد العالم العربي. في بلاده شاهد التحولات التي قادت جيلاً كاملاً نحو الماضي، وفي فرنسا شاهد الزحف المتشدد يصبغ وجه المكان...!

«سيرة الوقت» حكاية يجب أن تُروى، لمن شاهدها ولمن عاصرها ولمن سمع عنها أو تأثر بها، الوقت كان وما زال شاهداً على الفرص الضائعة، وعلى ما أهدر من زمان في التجمد وانعدام الحركة، حتى يبست العروق وجفت الينابيع... في «حكاية سجينة» نقرأ لنوال السعداوي: «لا شيء يقتل الإنسان سوى الانتظار... لا يموت الإنسان في السجن من الجوعِ أو من الحر أو من البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات. لكنه قد يموت من الانتظار. الانتظار يحول الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشيء، والمعنى إلى اللامعنى».