آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

اختلاف المرجعيات الدينية هي نقمة أم رحمة؟

زكريا أبو سرير

تعتبر المرجعيات الدينية عند جميع الديانات والطوائف هي مركز الإشعاع الروحي والعقلي، ويصعب احتمالية أي نوع من المجتمعات أن يعيشوا دون وجود جهة روحية موجهة لهم، فحاجة الناس والمجتمعات للمرجعيات الدينية، هو تماما كحاجتهم إلى مصباح يضيء لهم طريقهم ويرشدهم إلى طريق الصواب، فالمرجعية الدينية حاجة ماسة يدعو لها العقل والقلب باعتبارهما عنصرين مقومين للمعنى الإنساني والوجودي.

وبما أنه يصعب في المعادلة الحياتية في كل زمان ومكان، تحويل كل المجتمعات إلى جهات مرجعيات دينية وروحية، وذلك لحاجة المجتمع أو المجتمعات إلى التنوع العلمي والخدمي، وهذا هو أساس طبيعية الحياة إيجاد التنوع، لأجل تحقيق الكمال الخدمي الإنساني، فالمجتمع حتى يكون مجتمعا متكاملا، فهو بحاجة إلى رجال أمن ومعلمين وأطباء ومهندسين ومزارعين وبنائين ونجارين وطباخين، أي توفير غالب المهن الرئيسية الذي ينطلق منها المجتمع لتأسيس كيان أو دولة، فعلى رأس هذه الحاجيات الحياتية والضرورية هي المرجعيات الدينية، الذي بواسطتها تقوم بترسيخ القيم الإنسانية والدفع بها إلى التغير واستنهاض همم أبناء تلك المجتمعات وإصلاح أمورهم الحياتية وتغذية جانبهم الروحي والعقلي، لتمكينهم بحياة مستقرة وعادلة.

فشريحة المرجعيات الدينية غالبا ما تكون هي الأقل فئة عددية في المجتمع، وذلك لأن هذه الفئة يستلزمها تفريغ نفسها للجهد في طلب العلم والمثابرة المستمرة، وهذا يستغرق وقت طويل لتمكنها بلوغ درجة الحكمة والتعقل، لهذا هي تنحصر في مجموعة معينة من الناس، وكل مرجعية دينية في كل دين وطائفة تحوز على سمات أخلاقية عالية ومميزة، وهذه السمات تكون محل احترام وتقدير من غالب أبناء المجتمع.

قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة اية 122 ”وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ“

ما أود التطرق له في هذه المقالة، عن مفهوم ودور المرجعية الدينية الإسلامية الشيعية الاثني عشرية بالخصوص، واتجاه دور اتباعها لها، وهنا إشارة سريعة حول نشأة هذا المفهوم الديني عند الطائفة الشيعية المسلمة، حيث بدأ تفعيل دورها بعد انتهاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى للإمام الاثني عشر الإمام محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام، وبالتحديد من سنة 260 إلى 329 هجرية، بوفاة السفير الرابع علي بن محمد السمري رضوان الله عليه، انتهى عصر الغيبة الصغرى وبدأ عصر الغيبة الكبرى.

وهنا ورد حديثان شريفان يعززان هذا المفهوم والتحول في أخذ الفتوى وتنظيم الحركة الإسلامية الشيعية، بعد ما كانوا يتعاملون مباشرة في كل أمورهم الحياتية والدينية مع الأئمة المعصومين قبل بدء الغيبة الكبرى لخاتم الأئمة الإمام المهدي بن الحسن ، حيث ورد حديث عن الإمام الحسن العسكري قوله ”أما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه“، وكذلك روي عن الإمام الحجة بن الحسن قوله ”أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم“.

المرجعية الدينية في المفهوم الشيعي معناه رجوع المسلمين الشيعة في أخذ أحكامهم الشرعية والفقهية إلى شخص قد بلغ رتبة الاجتهاد، أي القادر على الاستنباط الحكم الشرعي من القرآن الكريم والسنة الطاهرة، كما يشترط عند البعض من الفقهاء في التقليد الأعلمية، حسب تصنيف أهل الخبرة في هذا الاختصاص وهم في الدرجة الأولى من أهل العلم، والمقلد له حرية من يتبع، علما أن التقليد الديني شرط أساسي وبدونه تختل عبادة الفرد المسلم الشيعي، وهنا يصنف الفرد المسلم الشيعي في تكليفه الشرعي، بين أن يكون مقلدا أو محتاطا أو مجتهدا، وغالب المجتمعات الشيعية المسلمة تكون من الصنف الأول.

إذن تبين للقارئ الكريم، ولو بشيء مختصر، عن مفهومي المرجعية الدينية وعن التقليد للمرجعية الدينية، أي الحائز على رتبة الاجتهاد، ومن خلال هذا التعريف قد تم إيضاح أهمية المرجعية الدينية الإسلامية على إنها مركز الإشعاع الروحي والعقلي، وإن وظيفية المرجعية الدينية إنارة الطريق إلى اتباعها، وكأنها تمثل دور الأبوة على أبنائها بما تحمله هذه الكلمة من معنى، وبهذا النهج استطاع المسلمون الشيعة، الحفاظ على أنفسهم وهويتهم وثقافتهم برغم التحديات الصعبة الذي واجهوها على مر التاريخ، وهذا الدور المرجعي والتقليدي ينبغي أن يستمر بنفس هذه الآلية وهذه الروح لكي تكون الطائفة في مأمن من أي اختراق يفسد أو يعطل هذين الدورين المهمين.

قد شوهد في الآونة الأخيرة حدثان مؤلمان، وكأنهما محاولة لإعادة دائرة الفتن المرجعية السابقة في المجتمع، التي حدثت في القرن المنصرم من الثمانينات الميلادية، وما شهدته تلك الفترة الزمنية من الآلام نفسية واجتماعية ما زالت آثارها تلقي بظلالها على المجتمع وأبنائه، حيث شهد الجميع ذلك التمزق المجتمعي الذي عصف بالجميع، ولم يخرج شاعلو هذه الفتن بنتيجة غير الدمار الفكري والديني والمجتمعي، وكما أننا ضد تمزق وتقسيم الوطن والأمة العربية والإسلامية من قبل الاستعمار الغاشم بما عرف باتفاقية سايكس بيكو عام 1916م، على المنطقة العربية والإسلامية وتحويلها من دولة ضاربة في العمق، إلى دويلات ضعيفة كل يتربص للآخر وينتظر الفرصة السانحة لكي ينقض عليه، بعد زرع الألغام بينهما، بعد أن كان كل ظهرا للآخر يحميه ويحتمي به.

فلا ينبغي للسماح لأحد بعودتنا إلى تلك الحروب الدينية والمذهبية والفكرية الطاحنة، الذي فتكت وأحرقت الأخضر واليابس، في سبيل إرضاء نفسيات مريضة لا تعي خطر وويلات ما ترتكبه من دمار ديني وفكري ومجتمعي، على غرار المشروع الشيطاني سايكس بيكو.

قبل فترة قد تعرض أحد رجال الدين النشطاء في المجال الديني والثقافي إلى شيء من الابتزاز النفسي، حيث وصل إلى درجة التهديد بالقطيعة المجتمعية معه، بسبب انتمائه المرجعي، أو بسبب طرح رموز فكره أو طرح أفكار مرجعيته الدينية الذي لا تتوافق مع تلك الجماعة، وهو عبارة عن طرح فكري سلمي تعايشي فلسفي لمنهج هو يؤمن ويعتقد به، كما للآخر نفس حرية الاعتقاد في المنهج والفكر الفلسفي الذي هو يتبناه، إذ يفاجئنا من لا يعي أهمية هذا التنوع الفكري، باغتيال وذبح لذلك الطرح الانفتاحي من الوريد إلى الوريد، بسبب عدم قدرته على تحمل المختلف معه مرجعيا وفكريا ومنهجيا، وهذا ما يعبر عنه بضيق الأفق.

والصورة الأخرى، الجماعة التي تسعى لإشعال الفتن في المجتمع، دينيا وفكريا وعقديا، عبر طرح أسئلة احترافية ومفخخة ومستدرجة، التي توجه لبعض طلبة العلوم الدينية، لإيقاعهم في فخ الفتنة الدينية والمجتمعية، علما أن مجتمعنا، غيره مبتلى بتلك الأسئلة، إلا أن أصحاب هذه الفتن وبذكاء شيطاني، يصيغون مسائلهم الدينية والشرعية بإحكام، بحيث يصورا لأسأله والسامع عن أنه سؤال ديني في غاية الأهمية، حيث يتصور للناس أنهم في حالة ابتلاء به وينبغي من رجل الدين أن يتحول إلى رجل إضفاء لإنقاذ المجتمع من ذلك الحريق الذي سوف يلتهم كل المجتمع ويحمله إحساس مسؤولية ذلك الاحتراق الفقهي المجتمعي، الذي لا معنى له غير جر الفتوى الدينية من فم رجل الدين الذي قد تكون له رمزية دينية في وسط المجتمع، وهنا ينبغي للرجل الدين يكون مدركا وواعيا لمثل تلك الأسئلة الصادرة من أشخاص لا يهمها غير نفسها وذاتها الأنانية الذي تفتقر للوازع الديني والأخلاقي والإنساني، وذلك على حساب الفتك بالمجتمع وأبنائه.

فمفهوم دور المرجعية باختلافها الفكري والفقهي، هي الزعامة الدينية والروحية والاجتماعية، لهذا لا ينبغي لمثل هؤلاء المخربين والعدوانيين، بالسماح لهم بالعبث بتلك المبادئ الرفيعة والمقدسة، وإن المرجعية كما كانت في السابق هي العباءة الذي تحتضن أبناء المجتمع، هي نفسها المرجعية الحالية الذي تقوم وتقود نفس هذا الدور الأبوي، وسوف تبقى هي مركز الإشعاع لجميع أبناء الطائفة الكريمة، والاختلاف الفقهي والفكري هو رحمة لا نقمة، وجميع مراجعنا الكرام في محل التقدير والاحترام.