آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 4:55 م

منتدى الثَّلاثاء الثَّقافيّ.. إحياء التَّقاليد

حسين محمد بافقيه *

نستطيع أنْ نُنزِل ”منتدى الثَّلاثاء الثَّقافيّ“ منزلةً متقدِّمةً في حياتنا الثَّقافيَّة في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، بما انطوى عليه مِنْ نشاط ثقافيٍّ وأدبيٍّ وفنِّيٍّ يبتغي القائمون عليه، مِنْ ورائه، أمرين: إحياء تقاليد المجتمع الأهليّ في تراثنا العربيّ الإسلاميّ، ومَدَّ النَّسَب إلى مؤسَّسات المجتمع المدنيّ في العصر الحاضر.

وعندي أنَّه لا تعارض، مطلقًا، بين هذا وذاك، بلْ إنَّ إحياء تقاليد المجتمع الأهليّ، في ثقافتنا الحديثة، أمرٌ واجب، يُمْليه علينا ما نعتدُّه استمرارًا تاريخيًّا وحضاريًّا لثقافةٍ نعتزي إليها، وتاريخ نحن امتداد له. فالمجتمع الأهليّ لمْ يَكُنْ في تاريخنا أمرًا هامشيًّا لا يؤبه له، وحَسْبُهُ أنَّه لولا مؤسَّساته، وأهمُّها، فيما نحن بصدده، مؤسَّسة الوقف = ما نشأتْ حضارتنا وثقافتنا، فالمدرسة، وخزائن الكُتُب، ثُمَّ المعهد والجامعة - إلى عهدٍ قريبٍ - كانتْ كُلُّها هِبَةً مِنْ هِبَات المجتمع الأهليّ التَّقليديّ، وقِسْ عليها المستشفيات، والأربطة، والزَّوايا، والحوزات... كُلُّ أولئك كان للأمراء، والكُبراء، والأثرياء، والعلماء يدٌ في إنشائه وإنمائه، وكان الأديب والعالِم والمؤلِّف لا يرجو أحدهم ذيوعًا لصوب عقله وثمرة تفكيره ما لمْ يَكُنْ هناك راعٍ يرعى ذلك الإبداع ويُقَدِّره.

ونستطيع أنْ نقول: إنَّ المجتمع الأهليّ ومؤسَّساته - لا سيَّما مؤسَّسة الوقف - كان الحارس الأمين على ثقافة المجتمعات، وهي المكوِّنة لتقاليدها، وما كان ذلك النَّشاط الوقفيّ بالمُبايِن لحياة النَّاس وما نُشِّئوا عليه، جيلًا بعد جيل، وإنَّ القائمين على تلك المؤسَّسات التَّاريخيَّة لَيُدركون أنَّهم يرفعون تلك التَّقاليد إلى فضائل دعا إليها الشَّارع الكريم، وأصبحتْ، بتقادُم الزَّمان، سِمَةً مِنْ سِمَات المجتمعات الإسلاميَّة.

وسواء عَدَدْنا ما نحن فيه استمرارًا لمثال ”المجتمع الأهليّ“ في ثقافتنا، أوْ شاهدًا على تأثُّرنا بالحضارة الحديثة وصورة ”المجتمع المدنيّ“، فالنَّفْع في كليهما عائدٌ على حياة النَّاس، وإنْ كان هوايَ يَصْغُو إلى ما كان متَّصلًا بتاريخنا وثقافتنا.

فإذا قَصَرْنا الحديث على ”منتدى الثَّلاثاء الثَّقافيّ“ رأيناه مستجمِعًا لكلتا المؤسَّستين، فهو، بالمعنى الأوَّل، استمرارٌ لتقاليد المجتمع الأهليّ في تراثنا، وهو، بالمعنى الآخِر، استلهامٌ للثَّقافة الحديثة وما ترجوه مِنْ مؤسَّسات المجتمع المدنيّ. وصاحب المنتدى الأستاذ جعفر الشَّايب اجتمعتْ فيه الثَّقافتان القديمة والحديثة، تَحَدَّرَتْ إليه الأولى مِنْ مجتمع القطيف وثقافته الضَّاربة في التَّاريخ، واتَّصَلَتْ به الثَّانية مِن العصر الحاضر وثقافته.

ورُبَّما جاز أنْ نتصوَّر ”منتدى الثَّلاثاء الثَّقافيّ“ نموذجًا لمؤسَّسات المجتمع المدنيّ، وإلى ذلك يميل صاحبه، لكنَّ رَفْع هذا المنتدى إلى شجرة الثَّقافة التَّقليديَّة القطيفيَّة، ماثلٌ فيه، يُقوِّيه أنَّه لمْ يَخْلُصْ بكُلِّيَّته لمسائل الثَّقافة الحديثة، ومشكلات التَّنمية، والحُقُوق المدنيَّة. فلا يزال للقطيف وثقافتها أثرٌ فيه، وهذا أمرٌ حسن، فالمثقَّف الدِّينيّ، بعمامته التَّقليديَّة، حاضرٌ إلى جانب المثقَّف الحديث، وكأنَّ المنتدى، وكأنَّ جعفر الشَّايب لا يريدان فصل هذا عنْ ذاك، أوْ كأنَّهما وَفِيَّان لتقاليدَ ثقافيَّةٍ هي جزء مِنْ صُورة القطيف في مُخيّلتنا، بلْ هي جزء مِنْ صُورة المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة القديمة، نلقاها في القطيف والأحساء، كما نلقاها في مكَّة المكرَّمة والمدينة النَّبويَّة المنوَّرة، وفي غير ناحيةٍ مِنْ بلادنا، قبل أنْ تَعْرِف ثقافتنا الحديثة هيئة المثقَّف المدنيّ مستقلَّةً عنْ صُورة المثقَّف الدِّينيّ.

نعمْ، لا نستطيع أنْ نفصل منتدَى جعفر الشَّايب عنْ حاضره، لكنَّني لا أتصوُّره إلَّا موصولًا بمجالس العِلْم وأندية الأدب في القطيف، تلك الَّتي تَخَرَّجَ فيها شيوخ الأدب في هذه الواحة، وكان أولئك الرُّوَّاد، وهُمْ يَرْقشون معالم نهضةٍ ثقافيَّةٍ جديدةٍ، يَعْرِفون أنَّهم إنَّما تُغذِّيهم ثقافةٌ لا تزال تصلهم - كما تنبئنا قصيدة عبد الرَّسول الجشِّيّ يوم احتفل مثقَّفو القطيف بوفد الجامِعة المصريَّة = بشعراء عبد القيس، وطَرَفة بن العبد، وعليّ بن المقرَّب، وجعفر الخَطِّيّ، ولنْ تلغي حداثة هذا المنتدَى، اليوم، ما كان عليه رُوَّاد الأدب والثَّقافة في القطيف، يوم اتَّخذها خالد الفرج دارًا ومُقامًا، ويوم أَلَمَّتْ بها عائشة عبد الرَّحمن ”بنت الشَّاطئ“، وراعها أن يَعْرِف أدباء القطيف ومثقَّفوها مِنْ أمر الثَّقافة في مصر، ما لمْ يعرفْه المثقَّفون المصريُّون عن الثَّقافة في القطيف، بلْ وما سوى القطيف.

ناقد أدبيّ ومؤرِّخ ثقافيّ، صدرت له العديد من المؤلفات في التاريخ الثقافي