آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 4:24 م

حكم العلماء

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

الجدل الذي أعقب مقال الأسبوع الماضي، المعنون «حكم التكنوقراط»، نبهني إلى مشكلة شائعة، وهي اختلاف المفاهيم بين الناس، بما فيها تلك المفاهيم التي نظنها مسلّمات أو موارد إجماع. هذه المشكلة تجعل النقاش بلا فائدة، لأنك تفترض وجود توافق أولي على غرض النقاش، ثم تكتشف متأخراً، أن أطراف النقاش يتحدثون في مسارات مختلفة أو سياقات متغايرة.

ومن ذلك مثلاً أن بعض الزملاء اعترضوا على ما قالوا إنه تسخيف لحاكمية العلم وفوقيته على غيره، واعترض آخرون على ما اعتبروه ربطاً متكلفاً بين «حكم الآلات للبشر» وهو احتمال غير مقبول، فوق أنه مجرد خيال، وبين حكم العلماء والخبراء، وهو أمر يحتاجه كل مجتمع.

على أي حال، وجدت في هذا النقاش فرصة لتحدي قناعة شائعة، ترجح حاكمية العلم وفوقيته على ما عداه. وكنت قد جادلتها بالتفصيل في دراسة سابقة حول «ولاية الفقيه» النظرية المعروفة في الفقه الشيعي المعاصر.

وأصل الفكرة من المسلّمات المعروفة بين الناس. فكل إنسان مدعو - عقلاً - للرجوع إلى الخبير في الموضوع، حين يحتاج. ولهذا يرجع الفقيه إلى الطبيب لعلاج مرضه، ويرجع الأمير إلى المهندس كي يبني سكنه، ويرجع التاجر إلى الخياط كي يخيط ثوبه... إلخ.

وهذا الأصل المنطقي هو القاعدة التي أقام عليها الفيلسوف اليوناني أفلاطون ثم أرسطو، فكرة «الملك الفيلسوف». لكنهما صرفا الفكرة عن أصلها إلى سياق فرعي نوعاً ما، كي يخدم نظريتهما الخاصة عن القانون الطبيعي وتطبيقاته في الحياة العامة. وظهر لي في أبحاث سابقة أن استدلال أرسطو قد تبناه الاتجاه العام بين علماء المسلمين وفلاسفتهم، منذ القدم وحتى اليوم. ولهذا تراهم يتحدثون عن ولاية الفقيه، واجتهاد الحاكم والقاضي، كما يصرفون «ولاية الأمر» الواردة في القرآن إلى علماء الشريعة، ويضفون عليهم قيمة عالية تتجاوز المعتاد بين أهل العلم.

وهذا يوضح سبب شيوع الفكرة، وجريانها مجرى المسلّمات. فمصادر الثقافة الدينية تشكل جانباً مؤثراً من ثقافتنا العامة، ونحن نتعامل معها كحقائق لا تقبل الجدال.

أما معارضتي للفكرة، فترجع إلى عاملين بسيطين: أولهما أن ممارسة الحكم والإدارة العامة - ولا سيما في مرحلة اتخاذ القرار - ليست من قضايا العلم وليست موضوعاً للبحث العلمي. الثاني أن العلم لم يعد في العصر الحديث مصدراً وأساساً لحق المدير في الأمر والنهي والتصرف.

إذا كانت التجارب دليلاً عند العقلاء، فإن تجربة الحكم في العالم المعاصر، في مختلف المجتمعات، تخبرنا أن الحكومات في كل بلد توكل للخبراء في كل مجال مهمة صناعة الأساس الذي يُتخذ القرار على ضوئه، أما اتخاذ القرار فعلياً فلا يرجع إلى العلماء بل إلى الحكام، وهو يتخذ سيرورة قانونية مختلفة عن مسار البحث العلمي.

وفيما يخص العامل الثاني، فإن وظيفة الحاكم هي إدارة مصالح مواطنيه، بحسب رغباتهم وتشخيصهم لمصالحهم، سواء كانت مطابقة للدليل العلمي أو مخالفة. إن شرعية القرار لا تستمد من مطابقته لنتائج العلم أو رجوعه إلى أدلة علمية، بل من انسجامه مع القانون الوطني، وكونه محققاً لمصالح المواطنين. والمقصود بشرعية القرار في علم السياسة، هو المبرر الذي يسمح للحاكم بالأمر والنهي والتصرف في الموارد العامة، كما يبرر للمواطنين طاعة الأمر والالتزام بمقتضياته، ولو كان مخالفاً لقناعاتهم.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.