آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

من مزق الشرنقة الخاصة بي؟

فاضل العماني * صحيفة الرياض

ما أروع الدروس والعبر التي تنسجها المواقف والحكايات في هذه الحياة المليئة بالدهشة والأسرار، وكل ما علينا أن نفعله هو أن نتلفت بلهفة وشغف من حولنا، لنُشاهد السماء وهي تُلهم أسراب الطيور المهاجرة باتجاه محاضن البهجة والجمال، ونراقب الأشجار وهي تحمي أزهارها بكتيبة من الأشواك، ونُمعن النظر في عالم الحشرات المكتنز بالقصص الملهمة.

هذا الكون المزدحم بالمخلوقات والحكايات، سجلٌ من الرسائل التي لم تُقرأ بعد، وألبومٌ من الصور التي لم تُلتقط بعد. هذا الكون بكل تفاصيله المتشظية، هو المدرسة الحقيقية التي تمنحنا طوق النجاة وتُعلمنا معنى الحياة.

اعتاد رجل على قضاء بعض الوقت الجميل في الحديقة المجاورة لبيته، وفي يوم من الأيام، رأى مشهداً مذهلاً لأول مرة في حياته، شرنقة صغيرة تهتز بقوة، اقترب منها فشاهد فراشة وليدة تُحاول جاهدة الخروج من فتحة صغيرة في تلك الشرنقة. استمر هذا المشهد المثير لأكثر من ساعة، والفراشة الصغيرة تكاد تفعل المستحيل للخروج، ترفرف بجناحيها بقوة وترتطم بجدار الشرنقة بشكل مستمر، ولكن كل محاولاتها المضنية لم تنجح، فيبدو أن هذه الحشرة الصغيرة قليلة الخبرة والحيلة ستموت داخل هذه الشرنقة عاجلاً أم آجلاً، هكذا كان الرجل المتعاطف مع الفراشة الصغيرة يُحدث نفسه، فقرر أن ينقذها قبل فوات الأوان. وبمنتهى الحذر والرقة، مزق فتحة الشرنقة قليلاً لتكون أكثر اتساعاً حتى تستطيع الفراشة الصغيرة الخروج بسهولة، وهذا ما حدث فعلاً، فقد استطاعت الخروج أخيراً، ولكن كان يبدو عليها الضعف والوهن، فانتظر الرجل بشوق لرؤيتها وهي تطير بعد أن تستجمع قواها، ولكن ذلك لم يحدث، ولن يحدث مطلقاً، فقد فقدت الفراشة الصغيرة قدرتها على الطيران للأبد، وحياتها لن تستمر طويلاً. لم يُدرك الرجل الخطأ الكبير الذي ارتكبه بحسن نية وطيبة خالصة ضد هذه الحشرة سيئة الحظ، فهو في حقيقة الأمر قد أضرها بشدة وكان السبب في تدمير حياتها بالكامل، فما تبذله الفراشات الصغيرة من جهد كبير للخروج من الشرنقة هو عمل ضروري للغاية، حيث يُفرز جسدها بعض السوائل حول جناحيها، فيجعلها أكثر قوة وقدرة على الطيران، وبدون كل ذلك النضال القوي عبر كل تلك المحاولات الفاشلة والمضنية، لن تُحقق حلمها الأثير وهو الطيران في الفضاء.

وهكذا نحن البشر، نحتاج لسيل منهمر من المحاولات الفاشلة والنضالات الخاسرة، خاصة في بداياتنا الأولى التي تتشكل فيها ذواتنا وتتكون فيها شخصياتنا، كل ذلك من أجل أن نستطيع أن نُحرر أفكارنا وتطير أحلامنا في سماوات الحقيقة.