آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

العودة إلى المبادئ الناظمة للعلاقات الدولية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

ليست الحداثة سوى مقولة تاريخية، ارتبطت بنشوء الدولة/ الأمة، أبرز ملامحها نشوء الدول، وهزيمة الإقطاع وانتصار الثورة الصناعية. وقد وضعت الثورة الفرنسية المدماك الأقوى، في انهيار النظم القديمة، القائمة على قاعدة الحق المقدس، وسيطرة الكنيسة.

برزت مؤشرات التراجع السياسي للكنيسة، بعد بزوغ حركة الإصلاح الديني، لمارتن لوثر كينج وجون كالفن. ولينهي هيمنتها السياسية انتصار اليعاقبة في فرنسا، والمتطهرين في إنجلترا. والتأكيد على العقد الاجتماعي وشيوع مبادئ احترام السيادة وحق تقرير المصير.

أهم خواص تلك المرحلة، نشوء الدول القومية، وكسر الحواجز الجمركية، داخل الأمم الناشئة، والبحث عن أسواق جديدة، خارج أسوار الأمم، حديثة التشكل. وقد وضعت تلك المقدمات الأساس لبداية العهد الاستعماري، الباحث عن الثروة والموارد، في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وهكذا، فإن الدول التي تبنت قيم الحداثة داخل أوروبا، هي التي خرقتها، خارج النطاق الأوروبي. وقد كشف ذلك عن تناقض فاضح، بين ممارسة الحداثة بجدارة في المركز، وممارسة نقيضها، من قبل تلك الدول، في العالم المقهور.

وضع التوسع الاستعماري، اللبنات الأساسية، لما يطلق عليه الآن بالعولمة. فهذا التوسع، حقق اندماج الدول التي وقعت تحت الاحتلال الأوروبي، في اقتصاداته. وقد كانت قراءة ذلك موضوعاً أثيراً لعدد من مفكري أمريكا اللاتينية، ولاحقاً لمفكرين من القارات الثلاث. وأساس تنظيراتهم، هو وجود مراكز وأطراف، وأن المركز يفرض سياساته ومناهجه الاقتصادية على الأطراف ويقوم بابتزازها.

وحين انطلقت تنظيرات «مدرسة التبعية» لم يكن الحديث عن العولمة قد ترسخ. لكن ذلك لم يمنع عملية إدماج اقتصادات العالم الثالث باقتصادات الدول المتقدمة.

لقد أدى الهجوم الكاسح للصناعات الأوروبية، إلى تدمير الصناعات الحرفية للبلدان النامية، وأخضع منتجاتها الزراعية لصالح دول المركز. وجاء اكتشاف رأس الرجاء الصالح، ليضاعف الأزمة الاقتصادية لبلدان عربية، كمصر وبلاد الشام، حيث انتهى عملياً دور موانئ بيروت واللاذقية والإسكندرية، كحلقات اتصال، في الملاحة البحرية الدولية. وبذلك حدث اندماج قسري لاقتصادات الدول المتخلفة، بالدول الصناعية. وتلك كانت صورة من صور العولمة.

المفهوم الحديث للعولمة، رغم الزعم بأنه يمثل عالم ما بعد الحداثة، فإن التعبير غير دقيق إلا إذا تم النظر له، من خلال التسليم بالمركزية الأوروبية، وليس على قاعدة نظام دولي يستند إلى الندية والتكافؤ بين الدول، وفقاً للنصوص التي عبرت عنها، بعد الحرب العالمية الأولى مبادئ عصبة الأمم المتحدة، ولاحقاً بعد الحرب العالمية الثانية، مبادئ هيئة الأمم المتحدة، التي أكدت على استقلال وسيادة الدول وحقها في تقرير المصير.

وعلى هذا الأساس، فإن القول بنهاية الدول وانتهاء الحدود، واعتبار العالم فضاءً واحداً، لم يكن أمراً جديداً، فقد مارسه الاستعمار التقليدي لعدة قرون، لكن فكرة الاستقلال والسيادة ترسخت وتعززت تاريخياً، ومن أجل صيانتها قدمت الشعوب التضحيات الجسام.

النمو الاقتصادي الكبير للصين الشعبية، وتفرده بالنمو في ظل وباء «كورونا»، والتوسع الروسي في أسواق السلاح العالمية، واختراقه لمناطق جديدة، لم تكن ضمن مناطق مصالحه الحيوية من قبل، بضمنها أعضاء في حلف الناتو، كلها مؤشرات بأن الهيمنة على الاقتصاد الدولي، لم تعد حكراً على الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد شهد العالم، في الشهور الأخيرة، خلافات حادة بين أمريكا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، من شأنها إذا ما تصاعدت، أن تُسهم في تسعير التنافس الاقتصادي والعسكري، بين الشرق والغرب. وربما أدت إلى العودة مجدداً لمناخات الحرب الباردة.

إن جملة من المؤشرات تشي بأن العالم على أعتاب عودة حادة للصراع الدولي، نتيجة للاختلال في موازين القوة الدولية، الذي ساد في العقود الماضية. وقد برزت ملامح ذلك الاختلال منذ أكثر من عقد من الزمن، وعبرت عنه، عودة هونج كونج للصين، والقرم لروسيا الاتحادية، والدور الروسي النشط في أوكرانيا والجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي، ووجود الأساطيل الروسية، على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

لم تكن العولمة في بعديها السياسي والاقتصادي، نتاج تطور تاريخي، بل تمت بالقسر. لقد غيّب الحديث عن حقبة نهاية السيادة والاستقلال، صراع الإرادات، وقوة الثقافات. والحديث الذي تكرر إثر سقوط المعسكر الاشتراكي، عن نهاية الدولة والسيادة، يدحضه عودة الدب القطبي بقوة، للساحة الدولية، والنمو الاقتصادي الكاسح للصين الشعبية.

عودة مفاهيم السيادة والاستقلال وحق تقرير المصير، والمبادئ الناظمة للعلاقات الدولية هي السبيل لإنهاء حقبة الانفلات الدولي. والعولمة في بعدها الإيجابي هي منجز إنساني ينبغي أن يكون في خدمة البشرية جمعاء.