آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

إضاءات من حياة الإمام الشيرازي الراحل

زكريا أبو سرير

عديدة هي السمات التي تتسم بها شخصية المرجع الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي رضوان الله عليه، والتي يتحدث عنها من عايشوه، وهذا ليس بغريب على قامة علمية وفكرية وجهادية وروحية وأخلاقية كبيرة أثرت على أجيال وما زال تأثيرها قائما وسيظل لأمد طويل.

سأحاول في ثنايا هذه المقالة، الإشارة إلى بعض السمات التي سمعتها شخصيا ممن عايش السيد الراحل أعلى الله مقامه، وأعتقد أنها جديرة بالتعميم والاقتداء، خاصة أننا نقترب إلى ذكرى يوم رحيله إلى الرفيق الأعلى في ثاني يوم عيد الفطر المبارك لعام 1422 هجرية.

أولى هذه السمات أنه كان رضوان الله تعالى عليه، أحد عباده الذين ابتلاهم الله بلاءً حسناً، فكان هذا البلاء تمخض عنه هذا العالم الرباني الذي تميز في زهده وخلقه وإنسانيته العالية، حيث لم نر أو نسمع شخصا واحدا قريبا كان أو بعيدا محبا أو مخالفا متفقا أو غير متفق معه، اختلفوا في شهادتهم أو رأيهم في هذا الجانب الإنساني الصعب جدا، الذي كانت علامة بارزة في شخصية سماحة الإمام الشيرازي رحمه الله، حيث طبيعة الإنسان هي التحولات والتقلبات في الأحوال والظروف الحياتية، فكان سماحته في كل الأحوال والظروف أعجوبة في تجاوز تلك البلايا، حتى إنه ينقل لنا أحد أبنائه وهو سماحة السيد جعفر الشيرازي، يقول لم أر أبي يوما واحدا غاضبا حتى في أشد الظروف التي كان يغضب فيها الكثير من الناس، إلا أنني لم إجده إلا دائما متوكلا ومحتسبا لربه.

وكذلك نقل أحد العلماء، وهو الخطيب والمربي سماحة الشيخ حسن الخويلدي، في إحدى زياراته له وهو يحمل رسالة من شخص ظلم السيد ويطلب الاعتذار والعفو من سماحة المرجع، وكأنما كان سماحة الشيخ حسن الخويلدي، يقوم بدور الوسيط بين الطرفين، فما كان من سماحة السيد المرجع الشيرازي، غير التبسم في وجه سماحته، ثم قال لسماحة الشيخ الخويلدي، شيخنا إني عفوت عن كل من أساء إلي وإلى من سوف يسيء إلي أيضا إلى يوم القيامة.

وهناك القصص الكثيرة والكثيرة، التي تم مشاهدتها مباشرة معه رحمه الله، أو من تم نقلها عن أطراف مختلفة وهي قصص تحير العقول من عظمة أخلاقه، لقد كان حقا ملاكا، لما يتمتع به من خصال حميدة، في قالب إنسان جميل في خلقه وأخلاقه، وهذا الجانب الأخلاقي، يعتبر أهم جانب في الإنسان يريده الله سبحانه وتعالى فيه، إن لم يكن هدف كل العبادات من صلاة وصوم وزكاة وجهاد وما شابه ذلك، لأجل الوصول إلى صناعة وتربية إنسان في قمة الخلق وهذا بحد ذاته مشروع إلهي «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»..

والسمة الأخرى، علمه الغزير والواسع، حيث برع وخلف وراءه ما يقارب أكثر من ألف وستمائة كتاب في شتى العلوم والمعارف المختلفة، خلال عمر قصير لا يتجاوز 75 عاما، وبحسب علمي القاصر، لم يتمكن أحد من المؤلفين أن يصل إلى هذا الرقم سواء كان ذلك قبل أو بعد رحيله رحمه الله، وربما حتى هذه اللحظة، وعلى ضوء ذلك استحق على لقب سلطان المؤلفين، وعليه أيضا سجل اسمه في موسوعة غينيتس للأرقام القياسية العالمية، على أنه الإنسان الوحيد الذي بلغت مؤلفاته هذا الحجم الكبير من الكتب في شتى أنواع المعرفة والفكر، وهذا فخرا للإسلام.

أقول ذلك ليس غريبا أن يصل الراحل لهذا الرقم الكبير من النتاج الفكري، لأنه لم يفوت فرصة من حياته، إلا وكان يستغلها في التأليف، كيف لا وهو في آخر لحظة من حياته المباركة، سقط القلم من يده المباركة وكان يكتب عن مولاتنا فاطمة الزهراء الشهيدة المظلومة سيدة نساء العالمين ، في إتمام كتابه الفقهي ”فقه الزهراء“، فلا عجب من هذه الخاتمة السعيدة لأنه عاش كل حياته عبدا مخلصا لربه سبحانه وخادما وفيا لنبيه الأكرم وأهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.

وأما السمة الثالثة: فإنه كان لا يعترف بشيء اسمه مستحيل قط، لهذا تراه في الجانب العملي والحركي، كان فعلا أعجوبة بما تحمل هذه الكلمة من معنى، كان لا يرى ولا يعتقد ولا يؤمن بشيء اسمه مستحيل، ويعتبر مبدأ الصعوبات ملغيّا من قاموس حياته، وعند تأسيس أي مشروع ومهما كانت نظرة الآخر لصعوبته كان يراه هو سهلا يسيرا بعد توكله على الله، وكان يقول دائما كل شيء يكون يسيرا بعد توكلنا على الله، فكانت عزيمته وصبره بعد توكله على ربه سبحانه تذيب الحديد الصلب، وطموحه لا حدود له، حيث ينقل لنا أحد العلماء، وهو سماحة العلامة الباحث والخطيب والكاتب والمربي الشيخ فوزي آل سيف، يذكر أن شخصا زار سماحة المرجع الشيرازي رحمه الله، وهو لتوه قام بتأسيس مشروع أستديو لتسجيل محاضرات إسلامية ودينية وثقافية، لتوزيعها على مختلف شرائح المجتمع، وذلك للاستفادة منها ولأجل خدمة الدين، فإذا بالسيد المرجع رحمه الله، بعد شكره له على هذا الإنجاز والعمل الطيب والمبارك، يطلب منه أن يحول مشروع الأستديو إلى مشروع قناة فضائية وباللغة العبرية، لكي تخاطب بها اليهود في العالم، فضلا عن باقي اللغات الأخرى، لهدايتهم وليسهل عليهم معرفة الإسلام، ولم يقم هذا الشخص الطموح من مقامه من عند الإمام الشيرازي، إلا وهو قد شحذ همته وأشعلها بمشروع قناة فضائية، بالمواصفات الذي ذكرها له سماحة المرجع الراحل رحمه الله.

وأما السمة الرابعة: فهي في الجانب الخطابي والبلاغي، فالإمام الشيرازي، يمتلك مهارة خطابية جاذبة، حيث قوة بلاغته وفصاحته وتعابير جسده المنظم والمنسق مع عباراته الكلامية، تجعل المستمع أسيرا، ومستمتعاً للأصغاء والاستماع له، أضف إلى أنه يمتلك قوة هائلة في التركيز والربط، وكذلك يمتلك قوة ذاكرة ربما يعجز الكثير من الناس عن وصفها، وهي الداعمة الرئيسية للخطابة، ولديه القدرة البارعة على اختيار العبارات بدقة عالية، وبما يتناسب مع ما يريد إيصاله من فكرة أو رسالة مع عنايته التامة بعنصر الوقت وتقديره الكبير للقدرة الاستيعابية للمتلقي.

وأما السمة الخامسة: استكشافه إلى الماضي والحاضر والمستقبل، فالإمام الشيرازي يُعد واحدا من العلماء المستقبليين الرائعين، حيث بانت كل تنبؤاته الحاضرة والمستقبلية وقد تحققت وبدقة، وكانت تقطع تلك التنبؤات بأعوام عديدة، كتنبؤاته بسقوط نظام الاتحاد السوفياتي، وما بعد السقوط، وسقوط النظام البعثي في العراق المتمثل في صدام حسين، وما بعد سقوط صدام حسين، بل ذكر حتى الكيفية وبالتفصيل، وغيرها من الأحداث والتغيرات الذي حدثت على المستوى المحلي والعالمي وبالدقة، وقد حير في وقتها، خبراء في العلوم السياسية والاجتماعية، حتى أصبح البعض بين المصدق والمكذب حتى سارت الأحداث وفق ما تنبأ به.

يؤكد الباحثون في علم المستقبل، بأن الإنسان قادر على استباق الزمن، وأن المستقبل جزء لا يتجزأ من مقومات الحالة الإنسانية، وأن الإنسان قادر على التصرف في الحاضر على أساس الخبرة الماضية المدروسة، لكن المشكلة في التعامل مع المستقبل بسبب عدم القدرة على معرفة ذلك المستقبل، يشير المستقبليون إلى أنه لا ينبغي التفكير بالحاضر فقط، فالماضي والحاضر هما وسيلتا تخطيط، وعمل باتجاه المستقبل، فالماضي قد مضى والحاضر لحظة عابرة، وكل ما نفكر فيه أو نفعله اليوم سيؤثر في المستقبل.

يبين الإمام المجدد السيد محمد الشيرازي، أن التطلع نحو المستقبليات من دوافع الإنسان الفطرية، ويقول كذلك جبل الناس على حب الاطلاع على ما يدور فيما حولهم، كما جبلوا على حب الاطلاع على أخبار الماضين واستشراف المستقبل.

واستشراف المستقبل حالة اعتنى بها القرآن الكريم بشكل خاص، حيث أصبحت حالة إيمانية، فإن ارتباط المؤمن بالمستقبل له عمق إيماني، حيث قال عز شأنه في كتابه الحكيم: «ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين»

فهذه الآية الكريمة تعبق بأمل الخلاص من القهر والظلم والجور في دولة القسط والعدل الذي سيقيمها صاحب العصر والزمان، وعجل الله فرجه الشريف.

لذا يشير الإمام الشيرازي الراحل إلى أن عملية التنبؤ المستقبلي، تستوجب حشد كم كبير من المعلومات، لرصد تحرك الأحداث بخطها البياني، لغرض توقع الحدث القادم أو الحالة المتوقعة مستقبلا.

هناك كلمة رائعة قالت في حق الإمام الشيرازي، أثناء تشيعه، على لسان احد مراجع قم المقدسة، وهو المرجع الديني سماحة السيد مرعشي نجفي، حيث قال ”أن الدنيا لم تعرف السيد الشيرازي ولن تعرفه، الا بعد مئة عام“

رحمك الله يا أبا رضا برحمته الواسعة، والفاتحة المباركة على روحه الطاهرة.