آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

نمو اللغة وتطورها‎‎

قيس آل مهنا *

هل تكبر اللغة وتثمر وتنضج، هل هي شجرة حتى ينطبق عليها ذلك أو انها كائن حي سيعطي نتاج حمله وولادته.

نعم اللغة تكبر وتنضج وتثمر وتتطور، فاللغة التي تكلم بها أهل الجاهلية وما سبقهم ليست هي قطعا لغة العصر العباسي وما بعده ففقد اكتسبت مما حولها من البيئات والمجتمعات القادمة معان ودلالات وصياغات تتناسب والعصر الذي هي فيه وهكذا الحال حتى وصلت لنا لغة رشيقة أنيقة تحاكي زمننا وتعبر به للقادم من الازمان.

وقد تتأثر اللغة في نضجها وتطورها بعدة عوامل من أبرزها الدين والمجتمع والطبيعة.

أولا تأثير الجانب الديني:

فحين يقول عمرو ابن كلثوم في معلقته المشهورة:

ألا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا
فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا

كان مقتضى الموقف والبيئة ذاتها الغلظة والشدة وإبراز اقوى وأقسى العبارات حتى تدخل الخوف والهلع في نفوس الخصوم، فهي بيئة جاهلية ضعيفة المعتقد بعيدة عن الالتزام.

أما حين تمتثل النفس للأوامر الدينية فتشذبها وتصقلها، فيتطلب الأمر حوارا فكريا ومنطقا عقليا لإثبات شيء ما أو نفيه، فقطعا ستتغير الألفاظ وتتبدل العبارات بما يخدم القضية ويدعمها وهذا ما فعله الكميت حيث يقول في حوارية مهذبة:

وأُرمى وأرمي بالعَدَاوَةِ أهلَها
وإنّي لأوذَى فِيهُم وأُؤَنَّبُ

فَمَا سَاءَني قَولُ أمرئ ذِي عَدَاوةٍ
بِعَوراء فِيهِم يجتديني فَيَجدُبُ

ثانيا الجانب الاجتماعي:

وقد أورد صاحب قصص العرب هذه الحكاية فقال:

قدم عليّ بن الجهم على المتوكل - وكان بدوياً جافياً - فأنشده قصيدة قال فيها:

أنت كالكلب في حفاظك للو *** دِ وكالتيس في قراعِ الخطوب
أنت كالدلوِ لا عدمناك دلوا *** من كبار الدلا كثير الذنوب

فعرف المتوكل قوته، ورقة مقصده، وخشونة لفظه، وإنه ما رأى سوى ما شبه به لعدم المخالطة، وملازمة البادية، فأمر له بدار حسنة على شاطئ الدجلة، فيها بستان حسن، يتخلله نسيم لطيف يغذي الأرواح، والجسر قريب منه، فيخرج إلى محلات ببغداد، فيرى حركة الناس ومظاهر مدنيتهم ويرجع إلى بيته.

فأقام ستة أشهر على ذلك، والأدباء والفضلاء يتعاهدون مجالسته ومحاضرته، ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشد فحضر وأنشد:

عيون المها بين الرصافة والجسر *** جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

فقال المتوكل: لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة!

فتمعن كيف أثر الاختلاط مع الشعراء والأدباء ومخالطة الملوك ومنادمتهم في صقل اللغة وتغيير عباراتها والفاظها بما يتناسب ومقام الملوك وحالهم وأخرج من بدوية الشاعر رقة حضارية مفعمة بالحب والخيال.

ثالثا جانب الطبيعة:

هذا الحال ايضا ينطبق على الشاعر المفتون والفتى المجنون قيس ابن الملوح فقد نظم أروع القصائد والأبيات في محبوبته وفاتنته ليلى ولكن ظلت البيئة تغلب في طابعها الخشن على ذلك الشعر اللين الممزوج بالطراوة والحلاوة.

ومن ذلك قوله:

تعَلَّقتُ لَيْلَى وهْيَ غِرٌّ صَغِيرَة ٌ
ولم يَبْدُ لِلأترابِ من ثَدْيها حَجْمُ

صَغِيرَيْنِ نَرْعَى البَهْمَ يا لَيْتَ أنَّنَا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

ولو انه عاش في بيئة الشاعر اللبناني أمين نخلة تلك البيئة المخملية المفعمة بالخضار والنضار متدفقة الانهار مترفة بالجمال والدلال وارفة الظلال لقال مثل قوله:

صغيربن نجهل معنى الهوى
ومعنى الحياء وما ينكر

فكانت ترى غصني يزدهي
وكنت أرى نهدها يكبر

فتسالني وهي مرتاعة
بحقك ما الذي تنظر

وفي الصدر غمز كنقل النمال
وكم انا عن وصفه أقصر

هنا وضعت الطبيعة لمساتها السحرية وأضفت من رونقها مؤثرات من الجمال الخلاب جعل من القصيدة تحفة فنية وانشودة حية ففي كل بيت منها لوحة وفي كل لوحة ترنيمة وما ذاك إلا أن مساحة من الطبيعة تآلفت مع مدى من الخيال فكانت لغة نامية متطورة بكل تفاصيلها.