آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 9:08 م

الملَّا والمستمع، من يسبق من؟ - سلسلة خواطر في أوانها

غيضٌ من فيضِ محبَّة ما أذكره من ملاحظات في هذا الصَّدد، حيث أن كلَّ معلومةٍ عرفتها - إن كنت أعرف شيئًا - كان منشؤها المنابر، ولا غضاضة أن يُذكر هذا المنبر، من صاحب مهنةٍ أخرى، بغرض خدمته وبثّ الحياة والرّوح فيه وليس بغرضِ التَّشويه أو التَّجريح، فلا يفوتنّ القارئ هذه المقدِّمة. وعندما أستعمل كلمة ملّا فهي في نظري صفةٌ لشخصٍ مبدع، ذكرًا كان أو أنثى، يخاطب عاطفةَ المستمع وعقله في آنٍ واحد، وليس خطيبًا من أيّ صنفٍ كان.

ذلك المنشد الذي فجَّر ينابيعَ العواطف فوقَ المنابر بعد مدَّةٍ قصيرة من مقتل الإمامِ الحسين عليه السَّلام في كربلاء في شهرِ محرَّم سنة 61 هجريَّة، فكان لهذه العواطف ما كان، ثم امتدَّ تأثير الحدث الى العقل - الشيعيّ - فصار يغذِّيه في عصرِ جفّت فيه المعلومة وتصحرَّت فيه المعرفة، يغذيه المعلومةَ والطرفة والتَّاريخ والدِّين والأدب، ولم تجف الدمعة، فماذا بعد؟

كما بَنى المنبر في شخصِ الملَّا، وهي مكانةٌ سامية، عاطفةً ثم عقلًا للمستمعين بعدما كانوا تقريبًا نمطًا واحدًا بسيطًا يتعب في العمل في الحقلِ أو الشَّركة، ولا مكان يحصل فيه على علم إلا تحت درجاتِ كرسيّ الخطيب، عليه الآن أن يرتقي فوقَ عقولهم الذين يتواجد فيهم الطَّبيب والمهندس والباحث والكاتب والتَّاجر ويسبق عقولهم، لا دونها.

إنَّ المنشد القديم الذي كان يُبكي الأئمةَ عليهم السَّلام في مجالسهم الخاصَّة وينشد أجملَ الأشعار وأشجاها، صار خطيبًا الآن، عليه أن يسبقَ العقولَ كما سبق القلوب، وهذا أمرٌ دونه عملٌ دؤوب، وإلَّا ينتهي الجانبُ العقليّ، وتعود فقط الدَّمعة والصدورُ العارية ومستهلّ القصيدة، ومع الأسف بشيء من الضَّحالة والتَّشويه. فلا بدّ للخطيب من التَّعب في البحثِ عن المادَّة المفيدة، وتقديمها بلغةٍ يفهمها أبناءُ هذا الزَّمان في العقيدةِ والاقتصاد والسّلوك ومشاكل المجتمع، وغيرها من تحدِّيات العصر.

بعد أسابيع سوف تطل سنةٌ هجريَّة جديدة في شهر محرَّم، وهذه الأسابيع من الواجب أن يُدوِّن الخطباءُ فيها أفكارهم قبل موعدِ إلقائها بوقتٍ كافٍ، وليس في وقتِ الإلقاء ويعدّون الفكرةَ آخذينَ في حسبانهم ما يعرفه النَّاس أو ما يظنّون - أنهم يعرفوه، ثم فلترة هذه الأفكار وتصفيتها قبلَ عرضها، وهم على ذلك قادرون بعونِ الله. فالمطلوب أن يرتقي عقلُ السَّامع إلى عقلِ الخطيب وليس أن ينحدرَ عقلُ الخطيبِ إلى أضعفِ عقولِ المستمعين رحمةً ورأفةً بهم!

مستشار أعلى هندسة بترول