آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

من التنوع الديني إلى الاستقطاب المذهبي

محمد الحرز * صحيفة اليوم

لا توجد دولة معاصرة لا يشمل نسيجها الاجتماعي تنوعا دينيا أو مذهبيا، إلا ما ندر وفي حالات قليلة.

لكنه تنوع يظل في حدود العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة، ولا يؤثر بالتالي على عمل مؤسسات الدولة ولا على عقيدتها الوطنية، وهذا ما يسمى في الدراسات السياسية الفكرية علمانية الدولة في علاقتها بالوطن أو المواطنة. فمنذ العصر الحديث قامت الدولة الحديثة على مثل هذا المرتكز، وأسست ديمقراطيتها على مثل هذه الرافعة كالمجتمعات الأوروبية والمجتمع الأمريكي، وأيضا في آسيا هناك المجتمع الهندي والإندونيسي على سبيل المثال.

هذا التعايش بين مؤسسات الدولة الحديثة من جهة وبين التنوع الديني العقائدي من جهة أخرى لم يأت من فراغ، لقد سبقه تاريخ عريق من الصراعات بين سلطة الملوك في فرض هيمنة الدولة، وسلطة الباباوات في فرض هيمنة الدين أو المذهب الواحد، خصوصا في أوروبا، التي خلفت حروبا شرسة وضحايا ومآسي بين الشعوب.

لذلك كانت الدولة الوطنية خيارا راسخا وملزما عند تلك المجتمعات في تبني مسألة التعايش والتساكن، ورغم الصراعات والحروب التي مرت بها هذه الدولة منذ مطالع القرن العشرين، لأجل ترسيخ خيارها في التعايش، إلا أنه في النهاية حدث نوع من التوافق على أن تكون الدبلوماسية والمفاوضات والاتفاقيات هي الطريق الأمثل لحل جميع الخلافات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية بين الشعوب بعضها البعض، والدول بين بعضها البعض.

وعليه لا ترى الآن حروبا تقليدية بين جيوش نظامية في دول قوية، ولا ترى مواجهات مسلحة تؤول إلى حرب شاملة، فعادة ما تكون النزاعات مسيطرا عليها، فإذا كانت داخلية فإن قانون الدولة الذي يستظل المجتمع بظله يكون بالنهاية هو الحكم الفصل، أما لو كانت خارجية بين الدول، فهناك مظلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي يبت في مثل هذه النزاعات.

قد يبدو هذا الكلام من نافلة القول، والمعروف بلا شك أيضا لدى الجميع، فالدول المتطورة والناجحة، أصبحت مشهورة بتجاربها في الاستقرار الأمني والتطور الاقتصادي والتقني والتأثير الثقافي والفكري والعلمي، مما جعلها مضربا للأمثال، وسبيلا للاقتداء والتمثل كالنمور الآسيوية ناهيك عن دول الاتحاد الأوروبي.

لكن الاستثناء الوحيد هو الشرق الأوسط الذي استعصت مجتمعاته، بالخصوص بعد سقوط الخلافة العثمانية 1924م، على ابتكار دولة تمتص في داخلها كل الصراعات والنزاعات التي ورثها تاريخهم البعيد والقريب، ومن ثم تكون قادرة على إعادة إنتاجها تحت ظل قوانين مدنية، وعلى رافعة عقد اجتماعي تتحطم على بنوده أي عنف يطل برأسه من تلك الصراعات.

لذلك بعدما كان التنوع الديني والمذهبي سمة بارزة للتعايش ومضربا للأمثال في مجتمعات المشرق العربي، وذلك لبروز الأديان المؤسسة فيها وتعدد الفرق والطوائف بعمقها التاريخي، جاء القرن العشرون ليحول هذا التنوع من المحرك الإيجابي إلى المحرك السلبي، من ثراء التنوع والاختلاف البشري الطبيعي، إلى نوع من الاستقطاب المذهبي والطائفي.

لماذا حدث ذلك؟ ما الأسباب التي أدت إليه؟!

الإجابة في كلمة واحدة هو انحسار هيمنة الدولة وضعفها، بل بعض الأحيان في غيابها.

قد يضعنا بعض الباحثين والمؤرخين أمام أسباب استعمارية، والبعض الآخر أمام عوامل شوفينية تدعي على الإنسان العربي غياب الحرية والعقلانية من جيناته ودمه، وبعضهم يتتبع أسبابا أنثروبولوجية تتعلق بمفهوم الاستبداد في علاقته بالسلطة والحكم.

لكن جميع هذه الأسباب تصب بالنهاية في سبب وحيد هو الدولة الحديثة. وعندما نقول الدولة الحديثة، فنحن نتحدث عن مسار تاريخي تراكمي لا يقل عن أربعة قرون مقارنة بمسار تشكل الدولة الحديثة في الغرب، لذلك خلال هذه القرون الأربعة التي نفترضها كان المشرق تحت الحكم العثماني ثم جاءت مرحلة الانتداب الأجنبي والاستعمار.

لكن كانت هناك فسحة أمل في العقد الأول من القرن العشرين في تأسيس دولة دستورية برلمانية في الشام. لكن الاستعمار أفشلها في المرة الأولى بينما كرس فشلها لاحقا التنوع المذهبي الذي حولها إلى استقطاب مذهبي حاد يقوض كل فكرة تشرع للدولة وتؤسس لها.