آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 9:19 م

اللطميات مابين الرثائي والغنائي من الشعر

أثير السادة *

القصيدة كما الإنسان تشبه الزمن الذي تحياه، فهي لا تكتب إلا باعتبارها جوابا عن كثير من أسئلة الإبداع وأسئلة الحياة معا، فمن الموضوعات وصولا إلى طرائق التعبير كلها تشرب من قهوة الوقت، وتسخن وتبرد وفقا للمناخ الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي يحياه الإنسان، والقصيدة الحسينية لا تملك سورا يمنعها من التأثر بالواقع وأسئلته، لغته ومزاجه، لذلك يمكن قراءة القصائد الجديدة التي انطلقت من جسد المصيبة وجسد الرادود من خلال مراقبة التحولات في اللغة من جهة، وأسئلة الواقع من جهة أخرى.

وفي مشهدية الشعر الحسيني، تبدو القصيدة الشعبية الأقرب لتمثل مزاج الناس، والمضي في ترجمة مشاعرهم وأفكارهم، هي شعبية لأنها تلامس نبض الشارع، وترسم الطريق إلى رغباته ومخاوفه معا، فإذا كان الخيال جناح يطير به الشعر، فإن مرايا الوقت هي الجناح الآخر الذي يهب القصيدة التحليق في سماء الناس، ليست كربلاء هي الرافد الوحيد لمضمون وشكل القصيدة، وإن كانت نصوصها المؤسسة هي التربة البكر لولادة القصائد عموما، بل الحياة بكل ما فيها من تماوجات تترك انعكاساتها وآثارها في داخل القصيدة.

موضوعات عاشوراء عالية الكثافة، يتفنن الشعراء كما الخطباء في طرق عرضها واستذكارها، كلها تلوح للحزن بيد، وتمسك بباقي المعاني باليد الأخرى، معاني البطولة والتضحية والفداء، وعلى هذا النحو جاءت مثلا تجربة ملا عطية الجمري في استدعاء حادثة الطف وتحويلها إلى نصوص شعرية عامية، بالاتكاء على تقنية“لسان الحال”لسرد أهوال المصيبة وانعكاساتها النفسية، نصوص مليئة بالتفجع والشكاية، الأمر الذي دفع البعض إلى وصله بطبيعة الحياة القاسية التي عاشها الجمري، كان الرثاء بالنسبة له هو الغرض الرئيس من كتابة النص، وهو الرافعة الفنية لنص منذور لذرف الدمعة ومحاصرة كل احتمالات النسيان لحادثة صاغت شكل علاقتنا بالحاضر والماضي على حد سواء.

قصائد الجمري مازالت جمرة تتقد على لسان الخطباء في مقدمة الحزن وخاتمته، غير أن نمطه الشعري ضمن حدود قصائد اللطم يكاد يختفي، تحضر قصائده ضمن أشكال الاحتفاء بالتراث لا أكثر كما يجري مع القصيدة الأشهر“وين الجفين ياسردال الحرب”، لا تشبه قصائد العزاء اليوم تلك القصائد المكتوبة بحس رثائي خالص، شعراء كثر بطول الحواضر الشيعية يكتبون القصيدة الشعبية في المناسبات الدينيية وعددهم بازدياد مع ازياد الطلب من المنشدين والرواديد، هذا الفريق الذي جاء من هامش المناسبة إلى متنها، غير أن قصائدهم وفي عطشها للابتكار والتجاوز أخذت تغرف من عناوين وموضوعات ومعجم لغوي مختلف، كان الدارج في القصائد القديمة انتخاب العبارات التي تتناسب والتخاطب مع الشخصيات الرفيعة، والقامات المقدسة، والتي لا تتخلى عن مسحة الرثاء، أما اليوم فهنالك غلبة للحالة الغنائية في القصيدة، ونعني بالتحديد التصعيد العاطفي المنحاز لصورة الحب والهيام، وترجمته عبر مفردات صريحة باتت هي عناوين لإصدارات ولطميات السنوات الأخيرة.

سيذكرنا على سبيل المثال محمد الجنامي في لطمية“السيد الجميل”بأن الحسين“أحلى جرح”و“أغلى حبيب”، وأنه“هوى العشاق”كما في لطمية حملت ذات الوصف إسما لها، وعلى ذات المقام من مقامات العشق يتغنى حسين الأكرف في لطمية“نسيانك حرام”بالقول“من كان الحب يا ما كان دوم دوم ما انساك”، ويمضي الصغير محمد باقر القحطان إلى وصف الاشتياق بين زينب وعباس، وهي تناديه“ رايح يا آخر نبضة بقلبي”ضمن قصيدة تتغزل في علاقة الأخوة بينهما، ومثله يصنع أحمد الفتلاوي في“ليل جروحي”وهو يصور لوعة فراق العباس“ لو ردنه نشتاك وننشوي اثنيناتنه بجمرات لفراق، ومابقى بيناتنه بس ليل لشواق”، ويصرخ“عمار الكناني”تعبيرا عن حبه في لطمية”أحبك والسلام”قائلا: أحلى شي بالعشك كله من تحب من طرف واحد“ و“ لو تحطني بنار حبك وبجهنم ما أبالي”، بينما يعلن مهدي اللامي في“إنته روحي”استعداده لبيع كل شي في سبيل نيل محبة الحسين،“اريدك.. لو مصيري يكون.. بالنهاية جنون/يالعليك عيون طايح قلبي بيهن لون”، تقول اللطمية، التي تؤكد كما غيرها على الحضور الكثيف والصريح للحالة الغنائية ومزاحمتها لقصائد الحماسة والرثاء في لطميات عاشوراء.

هذا الدخول اللافت للمسحة الغنائية في بنية اللطمية على مستوى الكلمة واللحن أيضا يجعلنا نبحث عن الدرب الذي مر منه هذا اللون من الشعر، عن الشجرة التي روت القصيدة بمائها وجعلتها تشبه أحلام الناس اليوم، أحلام الزيارة، واللهفة لاستعادة مشهد الحشود والتدافع في الطريق إلى كربلاء، عن أثر العراق الذي يؤثث المشهد الخلفي لمناسبة عاشوراء بكل صورها، وعن الفوضى الخلاقة التي انتجت ظواهر جديدة على مستوى الإحياء واضاءت الطريق لمن كان يغطيهم سواد الليل في يوميات الحصار، الأبواب المشرعة جلبت معها رغبات مفتوحة على كتابة نص جديد، معتجن بالواقع بقدر اعتجانه بكربلاء وصورها الواقعية والمتخيلة.