آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

من أنتم؟ ومن أنت؟

المهندس أمير الصالح *

قبل عقود من الزمان، كانت هناك دولة افريقية تَنعمْ بنعم كثيرة مما أنعم الله عليها من الخيرات والبركات. إلا أن المشهد هناك تغير بعد حدوث أمور عديدة على رأسها طغيان آفة الاستحواذ من قبل مجموعة صغيرة على كل شي هنالك. وبعد حين من الدهر تململ عامة الناس مما حل بهم أو هكذا قالت الصحافة الأجنبية ومراسلو المحطات الفضائية، فصنع الناس هناك حراك واطلقوا مطالب ونزلوا الشوارع والميادين للتعبير عن ارادتهم ومطالبهم. حينذاك أطل الرجل العسكري الحديدي، الذي يدعي لنفسه الإلهام والحاكمية المطلقة، على المعتصمين في خطبة متلفزة طويلة كان مطلعها قوله للجملة الشهيرة: ”من أنتم؟“. وكانت جملته تتضمن تهديد ووعيد واستخفاف وتحقير لمواطنيه إبان أحداث انتفاضة تاريخية مفصلية في بلاده أدت الى ما ادت اليه في تلكم البلاد من انهيار شبه تام. نسأل الله لكل أبناء آدم السلامة.

في وقتنا الحالي، قد تثير تلكم الجملة الشهيرة «من أنتم؟» الضحك لدى البعض من الناس عند سماعهم لها أو اداءها لفظيا بطريقة تحاكي نسختها الأصلية، لانها تسترجع في ذاكرتهم شريط أحداث معينة ادت بحياة قائلها. وكأن لسان حال جواب الناس في حق ذاك القائل: ومن أنت؟!

يبدو لي إن سوء المعاملة وانتهاك اخلاقيات التعامل الإنساني النبيل وتراكم الاحتقانات في الوسط الشعبي وضياع الحقوق وانتفاء العدالة الاجتماعية وضيق روح الأمل أشعلت جذوة تفلت الناس هناك.

الوقائع المذكورة أعلاه في تلكم الدولة الافريقية هي محطة جيدة لاستنطاق وحث كل أنسان بمراجعة نفسه وتهذيبها من الغرور والكبرياء والظلم أو التهجم على الاخرين أو أكل حقوقهم بالباطل. في واقعنا اليومي الحالي الذي نعيشه، وفي ظل تبعات أحداث جائحة كورونا التي ضربت كوكب الارض منذ نهاية عام 2019، وما صاحبها من اعادة هيكلة عميقه في طرق إدارة الشؤون العامة والخاصة وعالم المال والأعمال والعلاقات الإجتماعية والانماط التعليمية والعادات السلوكية على صعيد الأفراد.

بَرزت لدى البعض عدة اسئلة وجودية ومنها سؤال مُلح وعميق نابع من حديث الذات للذات لا سيما من انغمست نفسه في ظلمات الغرور والظلم والانانية وحب البروز والسؤال: من أنت؟.

وقد يتبع ذلك السؤال أسئلة آخرى مثل؛

وكيف تريد ان تعيد صياغة حياتك ونمط معيشتك ما بعد الجائحة مع نفسك ومحيطك بناء على مراجعة كل أو بعض المفاهيم والقناعات والسلوكيات التي كانت حزمة مبرمجة في العقل الفردي والجمعي؟ ولعل دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين في مكارِمِ الاخلاقِ ومرضِيِّ الافعالِ تجد المنجم الوافي الكافي والبلسم الشافي لتشخيص ومعالجة تلكم الخصال في الذات البشرية.

وهناك عدة اسئلة نوردها كجملة اعتراضية. لضبط زاوية قراءة المقال:

- هل أنت مُهتم أن تسمع رأي أفراد أسرتك فيك؟

- هل أنت مُهتم أن تسمع رأي اصدقاءك فيك؟

- هل أنت مُهتم في تحسين انماط معيشتك لتكون افضل مما كنت عليه؟

- هل أنت المبادر في خلق الظروف المناسبة قولا وفعلا لتحسين علاقاتك أم تنتظر الآخرين لأخذ زمام المبادرة؟

يمكنك الآن إستئناف قراءة المقال وأرجو انك وجدت أجوبة شفافة على الأسئلة التي طُرحت اعلاه.

في منطقة الشرق الاوسط بصفة خاصة حيث قوة الوشائج الاجتماعية، شاهدنا وواكبنا تغيرات جذرية عديدة ومستمرة في أمور مختلفة لا سيما في العلاقات البينية لأبناء المجتمع الواحد بعد بروز جائحة كوفيد 19 المرعب. فمثلا على مستوى الأفراد، انخفض معدل العتاب الاجتماعي داخل الأسر الكبيرة الواحدة بشكل كبير جدا وجُمدت بعض أساليب التواصل الإجتماعي المعتادة بأساليب آخرى من عالم السوشل ميديا. وانكمش معدل الإلتزام بالواجبات الحضورية الاجتماعية كالافراح والاتراح وعيادة المرضى وإستقبال الحجاج والزوار والمعتمرين وتوديع المسافرين بشكل تاريخي غير مسبوق.

إلا أن البعض ومع شديد الأسف تمادى في انقطاعه ووأد كل آداب صلة الرحم والآداب الاجتماعية بشكل تام ومُلفت للانتباه. ففي عهد ماقبل جائحة الكورونا، كان الأغلب من الناس يتضجر ويتذمر من معدل الملامة والعتاب الكبير الذي يتناوله به بعض افراد الاسرة الواحدة واصدقاؤه لقلة مشاركاته. والآن بعد حلول الجائحة، نسجل افعال صادرة من ذات اللائمين وهي على العكس تماما ومنها اسقاط ذاك البعض لكامل حقوق وادبيات صلة الرحم مع افراد اسرهم، متمترسين باعذار واهية. ياسبحان الله، نفس الاشخاص المُعاتبين للاخرين يصنعون ذات الصنع ولا يتورعون عنه.

فواقع الحال يطابق وصف القائل: ما بين حانا ومانا في تشخيص الأساليب الانجع في إدارة الأمور ضاعت وضُيعت مكاسب أجتماعية كبرى في عالم التواصل وصلة الرحم وزرع المودة وإرساء قواعد الآداب والادب الاجتماعية. فالصادق من الناس مع قيمه ومبادئه يتوازن في افعاله وتصرفاته وسلوكه بالحدود المعقولة والمنطقية قبل وأثناء وبعد الجائحة.

لعل البعض من الناس نجحو في الاجابة عن ماهية نفسياتهم وروضوها وانطلقوا في مراحل النمو اشواطا طويلة. واصبحوا يطرحون على انفسهم اسئلة متقدمة في تشخيص نماذج النمو والتنقيب عن أفضل اداء لانفسهم التي يمتطونها ويسوقونها. حتى انهم تخطوا مرحلة الأجابة عن اسئلة وجهوها لانفسهم، مثل: هل انت تنمو بالدافع الداخلي او بالدافع الخارجي او بالدافع الفيروسي او بدافع الولاء الاجتماعي؟

بينما البعض الأخر من الناس لم يُشخص نوعية نفسه ونفسيته ولم يروضها عند تقلب مزاجه ولم يراوح مكانه في النمو.

ومن الجميل ان يقول الإنسان لنفسه: من أنت؟، قبل ان يقول للاخرين: من أنتم؟. وهذا الفعل هو مصداق للقول المنسوب لسيد شباب أهل الجنة، الإمام الحسين : ﴿حاسبوا أنفسكم قبل ان تُحاسبو.