آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

فائدة لغوية «39»: ”معجم صورة شعرية“

الدكتور أحمد فتح الله *

وَإنِّي لَتَعْرُوني لِذِكْراكِ هَزَّةٌ....
كَمَا انتفَضَ العُصْفُوْرُ بَلَّلَهُ القَطْرُ

«أبو صخر الهذلي» [1] 

المناسبة والمعنى

تعرفت على هذا الجميل وأنا أعمل على تهذيب ”مجمع البحرين“ للشيخ الطريحي «رحمه الله» قبل 25 عامًا، وقد التَقَطُتُ الصورة الرائعة بشاشةِ ذاكرتي قبل أن تُخلق شاشةُ الهاتف الجوال «وبلاويه». وهو من أجمل وأدق الصور الحسية للاضطراب لذكر الحبيب؛ يستحضر تلك ”الرعشة“.

معجم المفردات

لَتَعْرُوني: تصيبني، مِنْ عَرَى: أَصَاب، أَلَمّ، إِعْتَرَى، حَلّ، دَهَم، نَاب. واللام فيها للتأكيد.

لِذِكْرَاكِ: ذِكْرَى مصدر ذكَرَ، وذَكَرَ الأَمْرَ ذِكْرًا وَذِكْرَى وَتَذْكارًا: اِسْتَحْضَرَهُ في ذِهْنِهِ بَعْدَ مُرورِ وَقْتٍ على حُدوثِهِ. واللام فيها للتعليل.

هَزَّة: اهتزاز، اضطراب، إِخْتِلاَج، تَشَنُّج، رَجْفَة، رِعْدَة، قُشَعْرِيرَة رعشة «كما جاءت في رواية أخرى للبيت». أَمَّا هِزَّة «بكسر الهاء» فتعني خِفَّة، نَشَاط، هِمَّة.

كَمَا: بعيدًا عن التفاصيل، هي لفظ مركب من حرف الجر الكاف «ك» التشبيه أو المماثلة زائدًا «ما»، لتعني ”مثلما“. والبعض يستعملها خطأً بمعنى ”بالإضافة إلى“، أو ”أيضًا“. واستعمالها في هذا البيت هو شاهد على أحد استعمالاتها الصحيحة: ”أن تقع بين فِعلين“:

- إمَّا مختلفين: ففي القرآن الكريم: ﴿فاسْتَقِمْ كما أُمِرْت «هود: 112»، و﴿ولقد جِئتُمونا فُرادى كما خلقناكم أول مرة «الأنعام: 94».

- أو متماثلين: كقوله تعالى: ﴿فاصْبِر كما صَبَرَ أولو العَزْم من الرُّسُل «الأحقاف: 35»، وكذلك في: ﴿فإنهم يَألمون كما تألمون «النساء، 104»، وفي الصلاة الإبراهيمية: ”اللهم صَلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صَلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم“. [2] 

انتفض: نَفَض: حَرَّك، رَجّ، رَجْرَج، هَزَّ، ونُفَض: إِرْتِعَاش، رِعْدَة. انتفض العصفور: تحرّك واضطرب، اهتزَّ بسرعة محرِّكًا جناحيه ليُزيل ما علِق بهما من غبارٍ أو ماء.

العُصْفُور: والعَصْفُور، والجمع عَصَافِيرُ، جنسُ طيرٍ «معروف» من الجواثم المخروطيات المناقير. مؤنثه عُصْفُورَة.

بَلَّلَهُ: أي بَلَّلَ العصفورَ «حيث يعود الهاء عليه»، وَبَلَّلَ فعلٌ يعني أَنْدَى، نَدّى، رَطَّب، ويقابله: جَفَّف، نَشَّف، يَبَّس. بَلَّلَ يبلِّل تَبْلِيلاً، فهو مُبلِّل، والمفعول مُبلَّل، وبلَّل الثَّوبَ وغيرَه: بلَّه، ندَّاه ورطَّبه بالماء، ومثاله بلّل المطرُ الطُّرقَ. والبَلَل والبِلَّة النُّدُوَّة، والبِلال:  كالبِلَّة؛ وبَلَّه بالماء وغيره يَبُلُّه بَلاًّ وبِلَّة وبَلَّلهُ فَابْتَلَّ وتَبَلَّلَ؛ قال ذو الرمة:

وما شَنَّتَا خَرْقاءَ واهِيَة الكُلَى....
سَقَى بهما سَاقٍ، ولَمَّا تَبَلَّلا

والبَلُّ: مصدر بَلَلْت الشيءَ أَبُلُّه بَلاًّ، وبَلَّه يَبُلُّه أَي نَدَّاه وبَلَّلَه، شدّد للمبالغة، فابْتَلَّ. والبِلال: الماء، وكلُّ ما يُبَلُّ به الحَلْقُ.

الْقَطْرُ: بفتح القاف وسكون الطاء، مفردها قطرة: كل ما نزل من السوائل على شكل نقاط، وفعله قطَرَ يَقْطُر قَطْرًا وقُطُورًا وقَطَرانًا، فهو قاطِر، والمفعول مقطور «للمتعدي». قطَر الماءُ ونحوُه: سال قطْرُهُ قَطْرَةً قَطْرَةً، قطَر قلبُه دَمًا: أُدْمِي قَلْبُه، قطَر الدواءَ في عينيه: أساله. والقطر: المطر، وهو المعني في بيت الهذلي.

أمَّا بعد

يخاطب الشعر وجدان الإنسان ومشاعره التي خلقتها تجاربه في الحياة بلغة خاصة يستخدم الشاعر فيها الكلمات كما يستخدم الرسام الألوان والموسيقيّ الأصوات «النغمات» لتكوين صورًا ورؤىً إنسانية.

والشعر هو أحد وسائل حفظ تاريخ الشعوب، وأحد مرايا المجتمع التي نرى بها ثقافته «العادات والتقاليد والموروثات الخاصة» التي تنتقل من جيل إلى آخر. فهو إذن أحد وسائل التعلم والتعليم بالتعريف بالتجارب الإنسانية ونشر القيم الأخلاقية، والمعارف المختلفة.

وقد كان الشعر أهم رافد لتعلم مفردات اللغة وتراكيبها عند العرب وحين نزل القرآن الكريم بلسانٍ عربيٍّ مبين صار مصدرًا آخر للفصاحة والثراء اللغوي، وجاء الحديث النبوي الشريف كثالثة الأثافي.

فكيف إذَن يفتقر شعبٌ لغويًّا ويزداد ضعفه اللغوي جيلًا بعد جيل، وأصبحت الفصحى كلغة أجنبية. فلنبدأ بتعويد أولادنا وبناتنا قراءة الشعر الفصيح وحفظ أبياتًا منه ولو متفرقة، كما نطلب منهم حفظ القرآن وآياته، وندخل ثقافة الشعر في بيوتنا، كما كانت في بيوت أجدادنا الأوائل «خيامًا ومبانٍ ودور».

[1]  أحد أهم الشعراء المعروفين في الفترة الأموية في التاريخ الإسلامي، واسمه عبد الله بن سلمه السهمي، من بني مرمض من قبيلة هذيل، قدم العديد من المدائح في الشعر العربي، وبشكل خاص لعبد الملك بن مروان، وقد اشتهر أيضًا بالمقطوعات الشعرية القصيرة في الغزل «كقصيدة في ”أم حكيم“» والإسلاميات «كقصيدة ”مكة“». وهذا البيت هو من قصيدة جاء قبله:

إذا قلتُ هذا حين أسلو يهيجني.... نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر

وبعده: هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى.... وزرتك حتى قيل ليس له صبر

[2]  الاستعمالات الصحيحة وأمور أخرى عن ”كَمَا“ في مقال قادم، إن شاء الله.
تاروت - القطيف