آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

‎تَعَامُلٌ أَمْ تَجِاهُلٌ؟ - حَدَتٌ وحَدِيثٌ - 5

عبد الله أمان

لا تَخلُو سُطور خاطرتي المُتواضِعة مِن ذِكر بَعض الشخوص المحترمين، بأَصل وأَهليِّة حُضورهم المُبجَّل، ورِسالة ”عِلمِهم وعَمَلهم“ الإِنسانية… ولن أَتعرض هنا، لشخص أَحدهم بعينه؛ أَو أَنال مِن كريم شخصيته المُوقرة؛ أَو دَمَاثة مَقامه الكريم؛ بل سأَعرِّج بناعِم لَمحةً، وصقيل إِلمَاعَة - بشفافية وأَريحية ذاتيتين - كالعادة، على سَير بعض مُخرجات بعض مِن المُمارسات، والهِنَات الجانبية، في غَمر فُنون المُعاملات المُلاحَظة اليومية، عند الآخرين، لدى العموم؛ عند أَداء مَهام خِطط وبَرامج أَصحاب الاختصاص، أَثناء عملهم اليومي المُعتاد، والتزام خُصوصِية رَسمِيات، وفَنِيات، وأصُول تعاملهم الميداني المباشر مَع الآخرين… ومِمَّا يُذكر في موضوع التفاضُلٍ والتمايُزٍ - في حديث عامة الناس - أن هُنالك تَفاوتًا مَلحوظًا في طَرائق وأَساليب تَعامل الأَشخاص، ذوي المهنة الواحدة مع مَن حَولهم، مِن المستفيدين، مِمَّن ينالهم ريع تلك الخَدمات المُقدَّمة لهم، ذاتها؛ وتسرّْهم كَفاءة نَتائجها الملموسَة؛ وتبهجهم فائق جَدارة مُخرجاتها المحسوسَة، كَمًا وكَيفًا. هذا، وسَأَقصِر دائرة حَديثي المركَّز على ثَلاثة مِن الأَطباء، في تخصص ”جِراحَة المُخ والأَعصاب، تحت سقف مستشفى واحد؛ وقد كان لي، وأَفراد أُسرتي، شَرف التعامل المباشر معهم؛ لطلب العلاج والاشتشفاء… أَولهم، طبيب زرته قبل يومين مِِن تحرير سطور خَاطرتي المُتواضعة، وهو الأَقرب إِلى ناصية الذاكرة، في زيارة مُتابَعة. وعند مُثولي، المرحَّب به، في عيادته، بادرني بالتحية والابتسامة، معًا؛ ثم أَردف ذلك الإِهداء المحمود، بسؤاله المعتاد عن مَدى مْستوى التحسن المُلاحظ، وسَير الاستجابات المَلموسة، أَثناء فترة العلاج السابقة، ومَفعول الأَدوية المتناولة... بعدها أَفادني، بشرح شامل مُفصَّل، بالتمثيل العُضوي العملي، والشرح المُوثَّق، باستخدام النماذج البلاستيكية، والصور الملونة، مِن صَفحات“ قوقل" المْعدَّة على سطح مكتب جهاز حَاسبه مُسَبقًا؛ وعن تطور بعض الاعتلالات العُمرية والعَصبية، خاصة في مَرحلة الشيخوخة، وفُسحة التقدم في العمر؛ وعن مُختلف التطورات العضوية الطارئة في وظائف الجهاز العصبي خاصة، ومَا جَاروها مِن الوظائف الحيوية للجهازين التوأَمين: العظمي والعضلي... وقد تناولها بالشرح والتمثيل العُضوي الحركي، ثم أَتبع تلك الإِفادة الوافرة الضافية، بنَثر وتصدير بعض المصطلحات الرئيسة، وسَرد وعَرض الشرائح التوضيحية… كل ذلك تم، على مَرأَى ومَسمع مِن مُتابعتي المُنصِتة باهتمام بالغ، والتي تخللتها بعض الأَسئلة؛ لطلب التوضيح، والاستزادة، والتثقيف؛ وتعزيز قائمة مَعلوماتي القَبْلِية المَخزُونة. وقبل نهاية الزيارة الخاطفة، أَهداني مَشكورًا، بحِزمة مِن التعليمات الأَساسية، والتمرينات العضوية اليومية، لتقوية أَجزاء الجهاز العصبي، ومَا جاورها.

ومما أَتذكره جيدًا، أَثناء زيارتي، لطبيب استشاري جراحة العظام، وكان ذلك قبل عَامين، بالمستشفى المذكور ذاته؛ وبعد إِجراء سِلسلة مِن التحاليل المخبرية، التي أَتحفني بنتائجها، سأَلني الطبيب نفسه، عن الشكوى الرئيسة الراهنة، فأَجبته، بشعوري بألم حَاد مُتجدد بأَسفل الكتف؛ وقام مشكورًا بالفحص السريري اللازم؛ وبعدها، أَحالني إِلى عيادة جَاره… استشاري جراحة المخ والأعصاب. وعِندما حَان الموعد المحدد، توجهت لزيارة - ثاني طبيب أَعصاب، في الوقت المحدد، وقد اصطحبتني الممرضة إِلى عيادته؛ وإذا به طبيب مُسِن، وكان وقتها، مَشغولًا مُنهمكًا بالبحث عن معلومات في جهاز الحاسب، وقد وقفت مِن خَلفه الممرضة، توجهه وترشده بتعليمات الاستخدام الفوري، فانتظرت الطبيب، داخل مكتب عيادته، لمدة لاتقل عن عَشر دَقائق، ثم استدار لي، وسأَلني: «ما المشكلة؟» لأُجيبه على الفور: «اَلم حاد أَسفل الكتف» … وقد حَولني طبيب العظام لعيادتك... ولا أُخفي الأَمر، على القارئ الكريم، فقد استخدمت بعض ”المُفرقعات“ مِن المُصطلحات العلمية الطبية أَثناء إِجابتي على سُؤال الطبيب، مُستعرضًا الحالة الراهنة، والتاريخ المَرضي؛ فإِذا به يواجهني بانفعال وهَيَجان شديدين: «لا يَحق للمريض استخدام المصطلحات الطبية، فالطبيب هو الشخص الوحيد الذي يعرفها، ويستخدمها فقط!». ثمَّ استطردت: «العلم للجميع، يا دكتور!» … فلم يعبأ بكلامي، ثم طلب مِني الكشف عن كتفي، وأَفادني - بعبارات ونبرات شديدة - بأَنَّ شكواي القائمة أَمر عادي؛ ولايحتاج إلى عِلاج، أو دَواء، أَو أَشعة… فخرجت مِن عيادته بخُفي حُنين!… وهذا جُزء ومِثال حي واحد، يتناقض مع طَريقة وأُسلوب، ومِزاج، وسَعة صَدر، وأَريحية الطبيب الذي زرته قبل يومين! فخرجت ولم أَستفد شيئًا يُذكر، مِن سَمَاحة المَظهَر، وعُلُو المَخبَر، لطبيب استشاري يَراه المرضى، والمراجعين حَاضِنًا، مُحَدِّثًا، بواسِع خِبرته العملية؛ وناضجًا في تمرُّسِه الميداني؛ ومُخلِصًا حَفيًا بمؤهله العلمي العالي؛ ووَفيًا مُسَلِّمًا بصدق القسم الذي تعهده، وألزمه على نفسه، بانتهاج الوَفاء المُثابر، بمهام الوظيفة الإِنسانية الشريفة، على أَكمل وَجه… خرجت مَغمور الفكر، ومُشوش المزاج؛ وفي قَرارة نفسي يتردد صدى ناقوسَي الأَمرين المتجاذبين: حَنين سَاحِر، وطَنين آسِر: هل أَنا مُستقل مَركبة ”السَّمَاحَة“ الفارهة، أَم مُتربع وَسط عَربة ”السَّمَاجَة“ الخشبية البدائية؟

هذا، ولن أفوَّت الفُرصة السانحة، ذات الصلة الوثيقة، التي تنبض حَية في ذاكرتي، عند زيارتي لعيادة الطبيب الأَريب، الاستشاري الثالث، قبل عَقدين ونيف، من الزمن؛ وفي مَجال التخصص المذكُور نفسِه… وقتها، كنتُ أَسعى لتشخيصٍ عِلاجي لابنتي، في بداية ربيعها الثالث؛ لشكوى مُتلازمة مَرضية، إحداها: اعتلال عَصَبي مُلاحَظ ”مُتلازمة النفق الرسغي لليد“ وقد سمعت المصطلح المذكور لاحقا، من الطبيب المعالج … ذلك الطبيب الاستشاري المُخلص المُتمكِّن، أَذهلني كثيرًا بكفاءة أَساليبه المُتميزة؛ وأَعجبني بسَلاسة طرائقه التشخِيصية المُثلى، و”كورس“ عِلاجه المدرُوس!… وفي الوقت ذاته؛ فقد أَرسل مريضته إِلى المختبر؛ لإِجراء عدد مِن التحاليل والفُحوصات اللازمة؛ بغية جَمع المعلومات؛ والوصول المُتأَنِ المُثمر إِلى نهاية التشخيص الدقيق، قبل بدء سلة كورس العلاج الناجع… إِضافة إِلى مُتطلبات عَينات المُختبر المطلوبة، فقد أَرسلها، في حِينها، إِلى فني رسم وتخطيط العَصَب؛ وبعدها، حوَّل مريضته إِلى عيادة طبيب العظام المجاورة «لجمع المعلومات» … والطبيب الأَخير، بدوره، لم يُحرِّك سَاكنًا، بالقيام بمهام الكشف السريري اللازم، بل طلب مِن المريضة الكشف عن مَوضع الشكوى، مِن بعيد، دون أِن يغادر مَكتبه، أَو ينهض مِن مَقعده. وفي الزيارة التالية لجاره طبيب الأَعصاب، اطَّلع أَصالة على تقرير زميله، طبيب العظام، مُمتعِضًا مْتذمِّرًا مِن سِوء، وعدم وُضوح خطه!… هذا ولم يهدأْ للطبيب المتابع بَال، ولم يسكن له حَال، حتى حولها تباعًا، إِلى طبيب استشاري الباطنية، الذي قام بإِجراء الفحوصات التشخيصية اللازمة، واجتهد وتكفل، بكفاءة مَشهودة، بالعلاج الناجع والمُتابعة الدورية، إِلى أَن تماثلت، بحمد الله تعالى، إِلى ذُروة الشفاء التام!

وبجزيل الثناء المُستحق على كَافة الجُهود الجليلة، وجُملة المساعي المبجَّلة التي بذلها طبيب الأعصاب المِعالج، المذكور أَعلاه، فقد قام مَشكورًا مَحبورًا - بطرائقه المُثلى، واجتهد مُثابرًا مُواضبُا بأساليبه المُميزة - بدور التشخيص الأَدائي المْتدرِّج الصحيح؛ وانتهج سَير العلاج الناجح الناجع، بعيدًا عن التفافات ومنعطفات أَساليب التسرُّع، وطرائق الاندفاع ”الفجَّة“، وإِصدار الحُكم التشخيصي العلاجي العَابر… هذا، وقد عَرفت لَاحقا، أَنَّ الطبيب العربي الاستشاري عَينَه، مُتخرج ومُتدرب في جَامعات ألمانيا؛ ويُولِي مُتابعة، واهتمامًا بالغَين، بمُستوى القيام بمهام أَداء مِهنته الإِنسانية، قلبًا، وقالبًا.

والخلاصة القائمة، برشاقة صِياغتها البارِعة، والشاخصة بأَناقة ديباجتها الحاذِقة تتجسد - قِيمة وقَدرًا - في ظل عِناية رَحيمة؛ وتُكرَّم في كَنف رِعاية كَريمة، في قِرى وضِيافة مَيدان الشعور الذاتي، المُحَلَّى طَوعًا وسلاسة، بأَواصر ”الانتماء الوظيفي“ المُخلص، المُتمسِّك بسُمو مفردات المهنة الإِنسانية؛ والمُتزيِّن بعُلو الانصهار الذاتي المشهود، لإِسعاف وإِتحاف، ومساعدة آخر صفوف المَرضى، وطَالبي الاستشفاء، مِن الانخراط الذاتي الحُر في مَسيرة قافلة مَيدان ”مَارَاثون“ الهَرولة العلاجية الرشيقة؛ لبلوغ ونيل، واسترفاد أيدٍ عَارفة رَحيمة، لطالما اشرأبت أعناق طالبيها القائمة، إِلى سابغ ونائل عطائها؛ وتطلَّعت، بحثيث وخفيف، مَساعِيها الرحيمة، إِلى الركون المستند إِلى لين جانبها؛ والوثوق الناضح بجميل رِفدها، بحُسنِ نيةٍ، وصَفاءِ سَريرةٍ، وطِيبِ خَاطرٍ؛ وقد تحمَّلوا طالبيها، جَاهدين مُجتهدين، ومُتجشمين شِدَّة العَناء والتنقل؛ وتكلَّفوا بؤس المشقة والشدة؛ طلبًا ورغبةً في ارتداء تاج الصحة المنشُود المنضُود؛ ليزهُو الأَناسي، ببريق ظهوره المتأَنق، فوق رؤوسهم، مَسرورين مَحبورين، أَنَّى ذهبوا، وأَينما ارتحلوا، رَافِعِين ومُعلِنين ومُعلِّين، بفخر واعتزاز، ديدن شِعار ”الصحةُ تاجٌ عَلى رُؤوسِ الأَصِحَّاء!“