آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:00 م

زيارة الأربعين ولاء وبناء

تلك الخطوات ذات الاتجاه المحدد يحذوها ويحفزها في المسير نحو معشوقها، مضامين عالية يسعى الزائر لتحصيلها وصياغة شخصيته بها، فمن كان يظن أن المسير نحو المولى الحسين لا ينطوي على أهداف وغايات فهو واهم، بل خطوات المشي تلك مدرسة تربوية تقدم للزائر مجموعة من الدروس المتنوعة والمتصلة بالجانب الروحي والولائي والاجتماعي والأخلاقي، بما يرتقي به في درجات التكامل والرقي ويكسبه القوة في إرادته والبصيرة في دروب الحياة، فالعلاقة بالإمام الحسين انفتاح الفكر على نهضته وأهدافه التي رسمها للبشرية على مر الزمن وتلاحق الأجيال، إنه الانصهار والانسجام مع قيم العدالة والكرامة والحرية والشجاعة في المواقف والوقوف في وجه الباطل والعدوان، وهذه العلاقة الروحية مع الإمام الحسين تحمل مشاعر العشق للوجود والذات التي حملت الغايات الإلهية وجسدتها على أرض الواقع، وتتساقط الحروف تباعا وتقف الأقلام عاجزة عن التعبير وتوصيف تلك الظاهرة الفريدة، بين جماهير ارتبطت بشخص رحل من دنيانا قبل أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ولكنه حاضر وخالد في الفكر والوجدان، بل كرور الأيام ينبيء عن تجدد وتوقد كل ما يتصل بالإمام الحسين من شعائر حسينية وخصوصا الزيارة، فهناك فحوى معاني وكلمات في نفس الزائر يريد أن يبوح بها لمعشوقه مجددا الوصال معه، رحلة محفوفة بالألطاف الإلهية لأنها نحو من أنحاء التقرب إلى الله تعالى بتعظيم وتبجيل أوليائه، وذلك من خلال استعراض سيرتهم وفكرهم والحياة المنارة بهديهم وتوجيهاتهم.

للعقول المنصفة تتراءى أمام ناظريهم مسيرة اجتماعية ضخمة لا مثيل لها، وبقراءتها يستحصل الفكر على تصور حقيقة تلك العلاقة بين السائرين والحسين أبي الأحرار، فهذا المسير يعبر عن علاقة عقائدية راسخة في القلوب رسوخ الجبال الرواسي، فالإمام الحسين يمثل عندهم دوحة الإمامة والمرجعية المعرفية والسلوكية في كل نواحي حياتهم، يتدفقون زرافات نحو معشوقهم وقلوبهم تنبض بقيمه وأهداف نهضته، ومن معه من أصحاب كرام يمثلون منارة الحق والهدى في مواقفهم، فقد طلقوا دنيا الذل والهوان وفقدان حرية الكلمة ومنخرطين في دعوة أبي الأحرار للإصلاح الاجتماعي ومظلة العدالة ومجابهة الظلم، لقد سبق أولئك العظماء أحرار العالم في التوجه إلى كربلاء، والتي ترمز إلى عنوان وهوية الحرية والكرامة والتخلق بالصفات الغراء؛ لتكون مدرسة لأحرار العالم مع مرور الزمن ليتبصروا معالم الكمال والسمو فيها.

يتذكر الزائرون في مسيرهم حركة السبايا وما واجهوه من وجع وألم في رحلة مضنية، يواسي الزائر في تلك الخطوات ما قاساه أطفال وبنات الرسالة في مسير السبي وتلك الآلام النفسية والجسدية التي واجهوها وكان أعظمها شماتة الأعداء.

تلك الجموع الزاحفة نحو كربلاء توقفنا على مشهد رهيب، يوم يخرج الإمام المنتظر ليقيم دولة العدل الإلهي ويحطم أصنام الشرك والفساد والظلم، فتأتيه الجموع الإيمانية كقطع الغمام تتكاثف وتزدحم بين يديه ملبية نداء الإصلاح.

والموقف الآخر هو يوم يبعث الناس ليوم الحساب فيخرجون من الأجداث سراعا، فتلك المسيرة الإيمانية التي ارتبطت بالإمام الحسين في الدنيا وتنفست هواء عشقه والولاء له، ترتجي أن تحشر تحت راية من تشرفوا بخدمته وإحياء شعائره وتحمل المشاق في سبيل الوصول إلى قبره الشريف.

وكل التبجيل والإكبار لمشهدية التكاتف والخدمة لجموع الموالين غير الطالبين لأي شيء من مصالح الدنيا أو ترجي منفعة سوى رضا المعبود، بل هم الجميع وهدفهم تقديم كل ألوان الخدمة للزائرين والسهر لراحتهم وتسهيل وصولهم إلى معشوقهم.

زيارة الأربعين عطايا روحية وإيمانية ينبغي السعي لنيلها والمحافظة عليها بعد ذلك، كما أن تلك الهمة التي نمتها مسيرة المعشوق لابد أن تلقي بظلالها على جميع مناحي حياتنا وخطواتنا وعلاقاتنا، فنتسم بتحمل المسئولية والمبادرة والسعي الحثيث نحو صنع المعروف وعمل الخير، فزيارة الأربعين عنوان المحبة والسلام والإخوة ونبذ كل الخلافات والخصومات، فالتوترات في العلاقات والمشاعر السلبية بيننا تتساقط تحت أقدام الزائرين.