آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

أطعمة تُراثية بين الاندثار والتوظيف التجاري الجشع

المهندس أمير الصالح *

من فنون الدعاية وشد الانتباه ودغدغة العواطف للمستهلك المحلي هو استخدام مسميات الأطعمة المحلية القديمة في المطاعم التراثية واستحضار الغريب والعجيب من الأسماء في قائمة الطعام. كل ذلك بهدف إثارة فضول رواد المطاعم الجدد لاسيما الشباب والفتيات من أبناء الجيل الصاعد والسائحين. فمثلا يورد اسم ”سيويا“ في القائمة على أنه أكلة مميزة ويُنصح بها من قبل كبير الطباخين في المطعم. وهذا الاسم قد يثير تساؤل الزبون الجديد للمطعم ويستزرع الفضول في نفسه. وعند الاستفسار منه عن معنى الكلمة، يتفنن النادل المحترف في تسويق المُنتج أو الطبق المعني لإقناع الزبون بالتجربة وأن تناوله للطبق حتما سينال إعجابه. وبالمحصلة يتم طلب ذلك الطبق ذو الاسم التراثي الغريب لفظا والمجهول تجربة من قبل الزبون. ليكتشف الزبون بأن سيويا هو طبق البلاليط أو الشعرية وأنه تم تقديمه له بوزن 100 جرام مع قليل من السكر المطبوخ. وأن تكلفة طبق صحن الشعرية، عفوا السيويا، هو 17 إلى 20 ضعف «X20» من قيمة كيس شعرية كامل وزن 400 جرام. وقد كان أو يكون الزبون في طفولته ممن يزهد في تناول طبق الشعرية عندما كانت جدته الحنونة تحضره له ذات الطبق مع رشة بطبقة من الزعفران الأصلي.

طبعا في أيامنا الحالية، رأى أو سيرى مرتادي المطاعم لاسيما الشباب مُسميات غريبة لأطعمة عديدة في المطاعم التراثية مثل عفوسة، زردة، مقلوبة، خبيصة، هريسة، مضروبة، مخروطة، مقروضة… الخ.

من مثال الشعرية «السويا»، لك أن تتخيل المبالغة في الأسعار لأطباق الوجبات في بعض المطاعم التراثية الحديثة. ولك أن تتخيل ما يخلق ذلك من صور في ذهنية المستهلك المحلي والسائح الأجنبي عندما يفكر بإعادة تجربة زيارة المطاعم التراثية باهظة التكاليف. ووصل الحال بأن بعض المطاعم التراثية بالغت بالأسعار وعند تقديم كبسة دجاج تقليدية محلية فإنك تنصدم بسعر يلامس 70 ريال للوجبة الواحدة أي دجاجة واحدة مع الرز. والكل يعلم بأن الدجاجة الطازجة المذكاة محليا بوزن 1200 جرام قيمتها الفعلية لا يتجاوز 16 ريال فقط!. ”هل كيف؟!“ كما ورد على لسان الفنان سعد بن عاقول؟. ولك أيضا أن تُقارن أسعار السمك المطبوخ بطرق محلية مثل مجبوس سمك في المطاعم التراثية المحلية والغير تراثية مقابل أسعار المواد الأساسية. فبينما وحاليا يُباع 6 كيلو من صنف سمك الصافي أو سمك كنعد، ترى أن بعض المطاعم التراثية والغير تراثية تبيع الكيلو الواحد مع الرز بمبلغ يلامس التسعين ريال!

المُلفت للأنظار بأن المطعم التراثي ذو الأسعار النارية يقع داخل أحياء شبه شعبية أو أحياء معظم سكانها من الطبقات المتوسطة في الدخل المالي وليس بشوارع تجارية ضخمة في مدن سياحية عالمية.

وحديثا مررت بمطعم يقدم الأكل التراثي باستخدام كلمة الملاس. أي أن قائمة الطعام تورد التالي: ملاس رز كبير مع نصف دجاجة أو مغرفة صالونة خضار مشكل مع ملاس رز صغير. والملاس هو اسم قديم لأداة معدنية تشبه الملعقة في الوظيفة إلا أنها كبيرة الحجم وتستخدم في تفريغ محتوى القدور إلى أطباق التقديم النهائية. وبسبب استخدام الملاس، يُروج المالك مطعمه على أنه يقدم أكل تراثي مميز. والواقع أن كل العاملين فيه من دول شرق آسيا والأطباق أطباق يومية عادية جدا!

قد يقول قائل: ”كل إنسان عقله في رأسه ويعرف خلاصه. وإذا لم يعجبك المطعم التراثي الفلاني بسبب ارتفاع أسعاره، فلا تذهب له“. رويدك أخي واسمع لبقية وجهة نظري علها تصل لمن يهمه أمر استمرار الحياة في المطاعم التراثية وانتشارها في أرجاء المعمورة. وإني والله محب لكل مستثمر في أرض وطني واعتبرهم شجعان لأنهم خاطروا بأموالهم ليضيفوا خدمات جديدة للمستهلك المحلي ويسهلوا أمره، وهذا أمر أكن له كامل التقدير.

في الوقت الذي نشكر أصحاب المطاعم التراثية في ترسيخ أسماء الأطعمة القديمة والتراثية إلا أننا نطالبهم، في ذات الوقت، التعقل في الأسعار والمحافظة على جودة الطعام وتجذير الطبق المحلي ليكون منافس فعلي وشرس في وجه أطعمة الوجبات السريعة والغير محلية. وحتى لا يربطون أصحاب الأسعار الباهظة من ملاك المطاعم التراثية في أذهاننا وأذهان الجيل الصاعد، أسماء الأكلات الشعبية التراثية والقديمة بالوجبات الباهظة الثمن فنزهد في ارتياد تلكم المطاعم التراثية. وبالتالي ملاك المطاعم التراثية يخسرون الاستثمار وأبناء الجيل الصاعد يخسرون الارتباط بالتراث الغذائي للأجداد والسائح العادي سيتجنب انهاك ميزانيته بتجنب تذوق طعام التراثي المحلي. وفي المحصلة، المستفيد النهائي هو سلسلة المطاعم الأجنبية والوجبات السريعة fast food و”بتوع“ الهمبرجر أبو خمسة وعشر ريال و”بتوع“ التاكو والفرينش فرايز والبيتزا. فلا عجب أن أرى مطعم الشايب الغربي المبتسم يضج ويعج بالزبائن من الفتيان والفتيات، وفي ذات الوقت أرى تهاوي بعض المطاعم التراثية ذات الأسعار المبالغة واحدا بعد الآخر. ولا عجب أنني حيثما سافرت في الأرض أرى ”بتوع“ البيتزا والهمبرجر ولا أرى مطاعم تعد الطعام التراثي المحلي! أهمس في أذن أصحاب المطاعم التراثية، راعوا الله في جودة إعداد أطعمة من تراث الأجداد وراعوا الله في الأسعار، وحينها سيراعيكم الله في استثماركم ويبارك لكم في عوائد الجميل من أعمالكم. ونتطلع أن نرى سلسلة مطاعم تراثية محلية منتشرة في أصقاع الأرض ليكون أبناء مجتمعنا يتأثرون ويؤثرون حيثما وجدوا.