آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 12:54 ص

وداعا أسطورة كرة القدم «27»

عبد العظيم شلي

برشلونه بعد معركة برنابيو ضاق ذرعا بالفتى، لأن حجم الانتقادات الموجهة للنادي هائلة، من قبل الجماهير المنقسمة والصحافة المتشنجة بجميع ميولاتها المتباينة، تقارير حادة ومقالات متحاملة مع ابراز صور متعددة لاشتباكات مارادونا الأخيرة.

ضغوط تتصاعد من أروقة النادي وخارجه مشوبة بانفعالات مطردة. تختلط الأمور كعصي جلاد على ظهر الفتى، سياط السنة وأقلام مستنفرة ومستفزة، وقناعة من ادارة برشلونه بأنها غير قادرة على ضبط مزاج اللاعب المتقلب ونزقه المنفلت من كل زمام. حلول متأرجحة، وقول الفصل متأزم، وآمال تذروها الرياح حول أغلى لاعب في العالم لجلب المسرات وتحقيق الانتصارات، بات الرهان خاسرا، حسب رؤاهم، التعليل جاهز حول سلوكه المضطرب، وبنظرهم أصبح ضبطه خارج السيطرة!

لكن الفتى الذهبي ضحية عنف وحسد منذ أن وطأت قدماه أرض الثيران الهائجة، جرجرته تحت صراعها المائج، ففي كل منازلة كروية يتلقى ضربات وحشية وأقساها تلك التي رمته تحت لهيب المجهول، بارادته الصلبة عاد وفي دمه حرارة انتقام.

كل فعل له ردة فعل، فحين استرجع الفتى قواه ولاحت له الفرصة، ثأر لجسده أمام مرأى الجميع وبحضور الملك، وقال قولته الأخيرة: «كانت فترتي صعبة، مظلمة، معقدة، قبل برشلونه كنت ألعب كرة قدم باستمتاع، لكن ما عشته مع برشلونه لم يكن كرة قدم أو رياضة بلغ الحد إلى توجيه الضربات إلى فمي ووجهي.. جسمي كان ينزف».

أعصابه استنزفت، تحت وطأة حكام، وهتافات جماهير عنصرية، وأقسى مشهد كسر كاحله في ليلة ظلماء، فعلة كادت أن تنهي حياته الرياضية للأبد. سلوك مارادونا في معركة البرنابيو انفعالي في لحظة غضب، أعمى عيونهم عن كل ايجابيات الماضي، غمامة حجبت نظرهم عن المستقبل. اجتمعت ادارة نادي برشلونة عدة مرات وقررت التخلص من ”البيبي“ بأي وسيلة، فتم عرضه للبيع، كأنه بضاعة كاسدة! لاغرابة، هذه أرض تملك ارث المتاجرة بالبشر، أسواق النخاسة تبيع وتشتري الجواري والحسان، يطاف بهن بين قصور البذخ والترف على وقع أغاني زرياب! أنغام صداحة في ساحة الرقص، تعلو مداخل الجدران جملة منقوشة ”لا غالب الا الله“، وعند الفجر حرب الطوائف تزلزل عروش حكام الأندلس تقاتلوا فيما بينهم ظاهريا باسم الدين وفي الخفاء خوفا من ضياع الملك، قوضوا وجودهم بأنفسهم تحت هزائم الخائبين، ذاك زمن أفلت شمسه، واليوم تغرب شمس مارادونا عن ”الكامب نو“، معزوفة بكائية أندلسية لاتينية بلحن أخير. قالها نونيز رئيس برشلونه، البيع هو المخرج من كل نقد، بل ومن كل الأزمات المتوترة بيننا وبين هذا الصعلوك.

سيق الفتى ابن 24 ربيعا لمتجر البيع، وبمجرد شيوع الخبر، تواصلت ادارة ناد ليس من فئة الأباطرة مع ادارة برشلونة بأنها ستدفع أكبر من قيمة شراءه مقابل فسخ العقد، اشتعلت المنافسات بين عدة أندية وقطع الطريق عليهم ناد يتذيل القاع لا يلتفت اليه أحد، قابع في الظل منسي في ركن قصي وبعيد من سباق الدوري، سعى بكل ما أؤتي من قوة رغم ضعف امكانياته، قرر أن يشتري الفتى مهما كلف الأمر. تناهى للأسماع وانبرى السؤال كيف لناد شبه مغمور أن يقدم على مثل هذه الفعلة، قيل عنهم مجانين!

الفتى راحل عن قلعة برشلونة العتيدة وأسوارها المشيدة بالبطولات، فتم ترتيب الاتفاق وجرى التوقيع على متن قارب في عرض البحر، الوجهة هذه المرة نحو الابحار شرقا.

ترك الفتى ميناء برشلونه وأمواجه العاتية والغادرة، وذهب لميناء آخر جنوب التراب الايطالي، تلقفه ناد يدعى نابولي يحمل اسم أشهر مدن الجنوب والتي كانت ذات يوم مستعمرة اسبانية. هب شعب نابولي عن بكرة أبيه لاستقبال الفتى كفاتح سليل أباطرة الرومان، دخل مدينتهم ناثرين عليه أكاليل الغار، راقص الكرة في احتفالية ضخمة في ملعبهم مرتديا شعار النادي ذو القميص السماوي، مارادونا ينتسب رسميا لنادي نابولي المنزوي الذي ينظر اليه باستصغار من قبل أندية الشمال الايطالي، ناد يصارع للبقاء، ويتذيل قائمة الدوري الايطالي منذ سنين عديدة، إن اقدام نابولي هل هي مجازفة أم مغامرة؟.

بكل ترحاب دفع مبلغ 6,9 مليون جنيه استرليني وهو رقم قياسي آخر في عالم شراء اللاعبين نسبة لذلك الزمن، من أجل ماذا؟ لتدعيم قلعة متصدعة بل شبه منسية عند الجماهير الرياضية، التحدي والرؤية الصائبة أحضرته برغم محدودية الموارد وقلة الامكانيات لدى نابولي وهو المتواضع ماليا قياسا لأندية الشمال الغنية والمترفة والتي تضم بين صفوفها أفضل لاعبي اوروبا،

دفع النادي بكل ما يملك من أجل شراءه، وبالمقابل فضل الفتى الذهاب لنابولي دون غيره من الأندية الأخرى ليس حبا للمال فقط، هناك من كان على استعداد للدفع أكثر، لكنه انحاز لحب الناس له، حيث كان أهالي نابولي تتابعه بشوق وتتغنى بمهارته خلال مشواره مع برشلونه وتعدد انجازاته في الملاعب الاسبانية، منذ التحاقه صيف 1982 الى صيف 1984، لعب 75 مباراة وسجل فيها 47 هدفا، وفاز بكأس الملك والدوري الاسباني موسم 1982 وكأس السوبر الاسباني 1983، تخللتها نكبات وأفراح وقصص أحزان.

الجمهور النابولي المتعطش لرؤياه لم يصدق عينيه بأن مارادونا بلحمه وشحمه أصبح بينهم، لقد جن جنون العشاق، شعب نظر اليه كمن ملك القمر، فهل يستطيع الفتى الذهبي اضاءة لياليهم المعتمة كما أضاء العبقري الرسام كارفاجيو جدران كنائس مدينة نابولي قبل 400 عام، قداس انتظار شعب لمهارات لاعب، ليس ترفا فهم مأخوذون بجلال الفن في جميع الأزمنة.

كاتب السطور شاهد بأم عينيه اصطفاف بشر من كل أقاليم ايطاليا من أجل رؤية أعمال العبقري كارفاجيو الأصلية في مدينة ميلانو 2019م، معرض استعاد لفنان ايطالي متفرد جمعت أعماله استعارة من مختلف متاحف ارووبا، لتكون في مكان واحد ولفترة زمنية معينة، نعم لقد وقفت منذ الساعة 11 صباحا عند بوابة المتحف ضمن بشر مصطفين على هيئة خطوط متعرجة كالثعبان الملتوي على نفسه، انتظار لم أسأم منه بددته في التفرس في سحنات البشر ورطانة الكلم، ونقوش الحجر وروعة المكان، حين جاء دوري للدخول نظرت للساعة، الوقت يشير الى 5 عصرا، نعم 6 ساعات وقوفا من أجل رؤية أعمال رسام!، إنه عبقري أحدث ثورة في عالم الفن، وكنت اتسائل ما هذا الشغف عند هؤلاء البشر لرؤية اعمال هذا الفنان المتوفرة صور أعماله في العديد من المكتبات وبعض لوحاته موزعة في متاحف المدن الايطالية والكنائس، ما هذا الاقبال المدهش من كل طبقات المجتمع، كنت عاجزا عن فهم ذائقة الزوار من شيوخ وشبان، ما شاهدته بنفسي موثق بكامرتي.

اذا لا غرابة عن ثقافة هؤلاء البشر، فهم مأخوذون باساطير الفن ومتيمين أيضا بأسطورة كرة القدم.