آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 11:39 م

عيون تتلصص

السيد فاضل علوي آل درويش

ورد عن الإمام العسكري : من الفواقرِ التي تَقصمُ الظهرَ جارٌ إنْ رأى حسنةً أطفأها، وإنْ رأى سيئةً أفشاها» «تحف العقول ص 487».

يحدثنا الإمام العسكري عن جنبة اجتماعية فيها من التنبيه والتوجيه الشيء الكثير لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الجيران، والتي ينبغي أن تكون تحت ظلال التفاهم والتعاون واحترام حرمة الجار، وأي توترات أو سوء فهم ينشأ لأي سبب كان لابد من معالجته وفق الحكمة والحوار والتسامح، وإلا فإن العلاقات غير المستقرة تعود بالخسارة على المستوى الفردي والمجتمعي، فالفرد الذي يخوض معارك شبه يومية مع جيرانه لأبسط الأمور يصاب بالاستفزاز وتداخله الكراهية والآفات الأخلاقية كالغيبة والنميمة، كما أن عرى العلاقات بين الجيران تصاب بالضعف والتوتر، مما يؤثر على القيم المجتمعية الداعية إلى الوئام والمحبة والتعاون والتسامح وبناء جسور الثقة.

يعبر الإمام العسكري عن مجاورة أهل بالسوء بالمصيبة التي تكسر الظهر، وذلك أن المصائب تداهم المرء فتصيبه بالهم والقلق والحزن وتشغل تفكيره، فهذه الحالة من الشحن الانفعالي بسبب جار السوء مصيبة تضعف قواه وتقعده عن الحراك، إذ يشكل جار السوء بؤرة توتر لا يمكن التخلص منها ما دام بجوارك، وذلك أن التجاور يكشف بعض الأسرار مما يسمى بهمس الجيران وما تتناقله ألسنتهم، فكيف بك إذا وقعت أحوالك تحت نظر وسمع جار سوء لا يراعي حرمة الجيرة، ولا يحترم قوانين الألفة والمحبة والتعاون المشترك الذي يضمن استقرار علاقتهم وتجنيبها عن مسار المنغصات والتوترات.

والجار السيء كل شخص يضمر نية الشر والعداء وتجاوز حقوق الجار، وذلك بسبب ما يحمله قلبه من حقد وحسد وكراهية تظهر على شكل مواقف عدائية تجاه جيرانه وغيرهم، فعشرته للآخرين بعيدة عن الاحترام والتقدير والتفاهم والمعاملة الحسنة، بل تسود المشاكل والتوترات مع هذا الجار المصاب بالآفات الأخلاقية وشرر أفعاله يتطاير في كل مكان.

ومن صفات جار السوء تتبع أحوال جيرانه والتطاول لمعرفة خصوصياتهم وعثراتهم، ويجعل كل ذلك في ملفات يختزلها عقله الماكر ليفتحها في وجه جيرانه متى ما رأى المصلحة في ذلك، كما أنه يصطاد في الماء العمر على مستوى العلاقات بين الجيران، إذ يسهل عليه معرفة أصدقاء كل واحد منهم فيعمل على تخريبها وبث سمومه ليخلق الخصومات والعداوات.

الترصد لأخطاء الجار وتتبع أسراره والعمل من خلالها على الإضرار به من صفات جار السوء، فإذا وقف على صفة أو موقف أو إنجاز حسن له أعرض بوجهه عن ذلك وأصم أذنه، فالتجاهل لوجود النقاط الإيجابية والصفات الجميلة في الجار سببها ما يحمله جار السوء من حقد وكراهية، كما أنه يعمل على التقليل من شأن أي موقف يبدو لجاره كنوع من وسائل التسقيط في أعين الناس.

وأما لو رأى خطأ أو صفة غير حسنة في جاره فإنه يأخذ الدور الإعلامي لإفشائها وبثها بين الجيران وغيرهم؛ بغية التسقيط لقدره ومكانته وإظهاره بصورة غير مقبولة، وبالتالي ينفر الناس عنه ويتجنبون إقامة العلاقة معه، وهذا يدل على مدى الدناءة واللؤم والخبث عند جار السوء، ولعله إمعانا في تبرئة نفسه وتلميع صورته يأخذ دور الناصح الأمين المحب الذي يبحث عن مصلحة جيرانه ولا يرغب في وقوعهم في مصيدة الاستغفال!!

وحينما يعد الإمام العسكري جار السوء من المصائب التي تقصم الظهر فإن مرد ذلك إلى ما يواجهه الجيران من متاعب وأضرار كثيرة، وذكر الإمام لضررين لا يعني اقتصاره على ذلك بل هو من باب الإشارة إلى أمثلة، وإلا فإن جهده ينصب على توجيه كل ألوان الأذى والحط من القدر والتسقيط والتقليل من الشأن ما أمكنه بكل وسيلة متاحة لديه، وسيكون حجرة عثرة أمام أي حركة أو إنجاز ثقافي أو اجتماعي تبذل الجهود من أجل تحقيقه، إذ سيعمل على التشكيك بنواياك ويحرف قصدك ومبتغاك ويتهمك بما يتمنى منه أن يلجم جماح طموحاتك وآمالك.

جار السوء بما ينطوي عليه من أحقاد سيكون لجيرانه بالمرصاد يراقب أحاديثهم واجتماعاتهم ومشاريعهم المجتمعية ليوقفها، وكنز الحكمة للإمام ينبه على أهمية حقوق الجيران بتربية النفس وتهذيبها والتخلص من الآفات الأخلاقية المؤثرة في تحول الإنسان إلى متلصص يضمر السوء لجيرانه وغيرهم.