آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 9:58 ص

عانقتُ عاماً وأراقص آخر

حسن المصطفى * صحيفة الرياض

يَجِبُ ألا يُحبطنا أحدٌ. الطريق طويلٌ، وعِرٌ، شاقٌ، إلا أنه دربٌ لا يسلكهُ إلا النبلاء، الشجعان، الوحيدون إلا من أرواحهم العالية كشمس لا تخاف الغيوم من حولها، وإن أمطرت حجارة من سجيل!

شمسٌ ترخي جدائلها الذهبية لمن أراد أن يتشبث بالنور، من إغرورقت عيناه وهامت رغبة في الأعالي، من لا يُغلقُ أزرارَ القميص، خوفاً من القيظِ أو البردِ، بل يُشرعُ صدره لمعانقة الحياة بفرح وحبور وإقدام الفرسانِ في سوح القتال، حين تتكسرُ النبالُ على النبالِ، فلا يفرُ من البيداء، بل يرى في الرماح ثغرَ حبيبته وابتسامتها التي تسرق الأرواح، فلا يزدادُ إلا تشبثاً في البقاء، فترى الضربات واحدةً تلو الأخرى، ليعودَ البواسلُ والرايات عالية، والأهازيج ترافقهم، فيما النسوة يستقبلونهم بالزغاريد ونثار الورد.

نحنُ غير قابلين للكسر، غير مجبولين على الاستسلام، لسنا راغبين في أن نكون نسخا مكررة عن أوجاعهم التي أثقلت الأجساد وأرهقت الأفئدة، نحنُ العاشقون لما نحن عليه من حكمةٍ صعبةٍ على من لم يعيها، ولذا، لن نكون ما يريدون، بل ما نريد نحنُ، وحسبُنا فخرٌ بذلكَ.

هكذا علينا أن نبدأ عامنا الجديد، غير آبهين بما يبكي رباتِ الحجالِ أو أربابِ الظهُورِ المنحنية.

ليكن عاماً نراقصه كما يحلو لعاشقين، كما يذوب المُتيمُ في عشق حَسْنائِه، وكما تغرقُ الوالهَةُ في عيني قَيسِها.

لن تكون الرقصات سهلة، وفي ذلك لذتها، هي رقصات متتالية، تتنوعُ بتعدُدِ الساعات والأيام والشهور، إلا أنه وحده المحظوظ من لا يتوقف علن الحركة، لأن الدرب لا يقطعه إلا من أدمنَ المسير. أَلم يَقُل أربابُ القلوب إن ”السالك إذا توقفَ هلكَ“!

يُروى فيما يَسردُ الحكاةُ من قصص عن مولانا جلال الدين الرومي، بعضها له من الصحة نصيب، وأخرى فيها من الخيال الشفيف الكثير، أن مولانا مرَّ على سوق الصاغة، يريد إصلاح دينارهِ الذهبي، فما أن بدأ الصكاكُ بالطرقِ حتى تحول الطرقُ عند مولانا إلى نقر، والنقرُ إلى رقصٍ، والرقصُ إلى انتشاءٍ، فأشارَ بيدهِ إلى الصكاكِ ألا يتوقف، وما أفاقَ حتى فُنيَّ الدينار!

هكذا اندكَ مولانا في حالِ وَجدهِ حتى ”الفناء في المحبوب“، غير آبه بما حوله، منفصلاً عن الأعراض، مفضلاً نشوة العرفاءِ على لمعةِ الذهب؛ وعلى تلك الجادةِ من المُبهجِ أن تكون حيواتنا، مندمجين فيها، غير آبهين بالهجائين لها، أو المزوقِين، فكلا الفريقين لا صلةِ لهُما بالوصلِ والوصال!

من يشتمون الحياة ويذمونها، ويرفعون السلبية راية سوداء، هم الوجه الآخر لمن يمجدها ببلاده ويشهرون الإيجابية السمجة بيرقاً في وجوه البشر.

لذة الحياة في لحظاتها الممزوجة بالدمع والماء الرقراق، بالدم والعسل، السكين والريشة، الانكسار والانتصار، الوقوع في الحفرِ السحيقةِ والنهوض منها، اللكماتُ التي تدمي الوجهَ والقبلاتُ التي تضمدُ الجراح.

تلك هي الحياة التي علينا أن نعيشها في العام الجديد، دون أن نمتعضَ من أقداحها الحلوة والمرة، لأن الإيجابية ليست كما يروج لها المسوقون المتخمون بالابتسامات الباردة، المدعون أن الحياة بهجة وفرح مُطلقٌ، فذلك ضربٌ من التكاذب الذي لا يصدقه أحد.

الإيجابية هي أن نكون على قدرٍ كبيرٍ من الحكمة والقوة والوعي والأمل والإيمان والامتنان والعمل، وأن نجعل بصيرتنا تواجه المعارك الواحدة تلو الأخرى دون أن ينكسر لنا حسامٌ، وإن انثلمَ واحدٌ رفعنا الآخر، حديداً صلداً كان أم وردة.

السلبيون، المرتجفةُ قلوبهم، هم الآخرون، غير جديرين بأن نُصغي لهم، بل لنقل لهم: يوسفُ أعرِض عن هذا.

لندفعهم لأن يتخففوا من حلكة الأيام، ويكسروا الحواجز التي بنتها الخسارات المتتالية أو المخاوف الموهومة.

لذا، هلموا يا رفاق، وليكن عامكم هذا خيرٌ من أعوامكم السالفة، ولنقُل للحياة: ها قد أتينا، نحن البحارةُ الذين نلاحقُ سفنَ القراصنة، ونستكشفُ المحيطات، ونجوبُ جزرَ الأميرات، لكلِ فرحِ منكِ لنا قدحٌ ونصيب.