آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

استثمار الدار الأولى للدار الآخرة

حليمة بن عطاء

حليمة بن عطاءخلق الله الإنسان لعبادته وجعله خليفة له على هذه الأرض، وترك له السعي فيها بأن أعطاه قدرات ونِعم يرفل بها ليستخدمها ويعمرها في خدمة عباده بها، وما أجمل أن يترك فيها الأثر الجميل ليكون ذلك بوابته لعالم الخلود السعيد.

وعلى من يسعى في هذه الأرض ويعمرها أن يتحلى بعدة صفات منها حسن الخلق، تنظيم الوقت والعطاء، فمن قدوتنا الكبرى رسولنا الكريم الذي قال عنه المولى ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍۢ - القلم آية 4، وآل بيته ننهج نهجهم وتتضح لنا الصورة الحقة لخدمة الناس وعطائهم بما هو أهله.

فقد نظن أحيانا أننا من نعطي الآخرين ونتفضل عليهم ولكن نتفاجأ أن المولى تبارك علاه قد أراد لنا الخير بأن ساقنا لفعل الخير لعباده، وإن ما نقوم به مردوده ليس عائدا على الدنيا فقط بل هو ممتد إلى يوم القيامة، وإن موقفنا هذا سيبقى خالدا ما حيينا، وقد نجد أثره سريعا على أبنائنا وحياتنا اليومية بالتوفيق والخير والبركة.

ولأن الدنيا سيقت لأجلنا نحن عباده فإن المقابل حتما سنلقاه، فبطبيعة الحال ما تصنعه من خير سيعود عليك لاحقا ولكن ليس بالضرورة ممن وفينا لهم وأحسنا إليهم «وذلك بتوفيق من الله» بل لربما سيكون من طرف ثالث ساقه المولى إلينا ليهبه جبالا من الحسنات وهكذا دواليك، نعطي الآخرين ليأتِ آخر ويعطينا ومن أعطيناه سيحسن لغيرنا، ليعم التكافل والتلاحم والتراحم الاجتماعي، قوينا مع ضعيفنا حرنا مع مملوكنا كنا ذكورا أم إناثا وجعل لنا مقياس ذلك وهو التقوى، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم - الحجرات آية 13

أي أننا علينا أن ننبذ من أنفسنا شعور التفضل على الآخرين، وأن لنا يد الفضل عليهم، وإلا ستمحق البركة من أيدينا، فما نحن إلا جنود مجندة وجدنا لنخدم بعضنا البعض، وإن آثرنا العطاء لمن نحب ومن نريد فقط فسنبقى في دائرة ضيقة من العطاء ولربما سينتهي ما لدينا دون أن نعمر هذه الأرض.

فمن سيدة المثل ودوحة العطاء السيدة هناء المهنا والتي تشرفت بتقديم حفل تأبينها ولم أكن قبلها أحمل أدنى فكرة لأقدمها عنها فبقيت في حيرة شديدة من أمري عما سأقول وماذا سأقدم وماذا سألقي، فمن كانت يوما أما لصديقتي وملهمة لي فقدناها بعد عناء مرت به ولم يكن سهلا لا على عائلتها ولا على محبيها! حتى مرت آخر ليلة قبيل اللقاء وجدت فيها أن الأخلاق هي سيدة الموقف، حيث يمكننا اختراق قلوب الناس دون أن ننطق ببنت شفة، إذ يكفينا سلوكنا الناطق بالصفات الحميدة لنتربع على قلوب الناس، وبعطائنا وبحبنا لأنفسنا وللآخرين تعطى قيمة وأهمية للإنسان في الحياة وفى مجتمعه، فالإنسان بلا عطاء يصبح بلا قيمة، وأقتبس جملة من قصاصات هذه السيدة العظيمة سبق أن قدمتها في أنشطتها التطوعية أرسلتها لي صديقتي «ابنتها» حين طلبت منها أن تحدثني ولو قليلا عنها! علني أستحضر شيئا أتمكن فيه من الحديث عنها، جاء فيها:

«العطاء مفردة في معجم الأوفياء الذين حباهم المنعم الوهاب بفيض كرمه، فراحوا يجسدون أقدس معانيه بصدقهم وتفانيهم ورقي أخلاقهم»

وهذا حقا ما جسدته هي في حياتها، وحيث أن الله خلق الخلق لعبادته واستخلفهم في الأرض ليعمروها، كان لا بد للإنسان أن تصيبه الأقدار ضمن إرادة الله تعالى لعباده، ليكفّر بها عنهم ذنوبهم، وليعرفوا قيمة الصحة، وليقدروا نعم الله عز وجل حق قدرها، فجعل الدنيا دار ابتلاء بسراء أو ضراء بمرض أو موت قال تعالى ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا الكهف آية 7، وطوبى لمن كان مرضه سببا لوفاته، فقد حظي بمنزلة الشهادة.

فلا الموت يغيب المرء عن هذه الدنيا، وإنما حضوره وذهابه دون تركه للأثر هنا هو الموت والاندثار الحقيقي، وأسمى أثر هو ما تركته لنا هذه السيدة العظيمة وهؤلاء الأحبة، ناهيك عن كم المشاعر التي تغمرنا في تلك الليلة من شجن إلا أننا حين نجلس في مجلس عزائهم لا تمر لحظة إلا ونسمع من الفاقدين والمحبين قليلا عما حدث لهم معهم فائضا على ما علمناه عنهم سابقا، بل ونتفاجأ بالكم الهائل من الخير الذي بنوه في دنياهم لأخراهم، فعن نفسي لا أنسى مبادرة هذه السيدة المحترمة حين بادرت مسرعة في تلبية واجب العزاء حين فقدت عمي رحمه الله لحظة سماعها بالخبر وهي خارجة من عملها، فلم تتوانى أو تتأخر عن القيام بالمواساة وهي في خضم انشغالاتها وأنشطتها الكثيرة، فياترى كيف لهم أن يكونوا بهذا العطاء وهذا الإحسان الكبير مع الآخرين؟! وما هي العلاقة التي كانوا يحملونها لله ليوفقوا في فعل ذلك؟! وهل قاسوا بمحطات التوقف التي قد تمنعهم عن مواصلة المشوار فأبوا إلا أن يواصلوه ويكملوه على أكمل وجه؟! وهل مروا بعثرات تمنعهم عن فعله فتغلبوا عليها؟! وهل أخطأوا في حق الآخرين مثلنا نحن القاصرين فغفر لهم المولى حتى ذهبوا مصفون أنقياء لا تشوبهم شائبة؟! أم كانوا ملائكة في صورة بشر؟!

هل من العدل أن تمر هذه النماذج التي يسوقها المولى أمامنا لنتعلم حقا منها حتى في آخر يوم من حياتهم، ولا نتعلم؟!

ما أجمل الاستثمار اليوم للفوز بعيش رغد غدا، فلتكون لنا حياة بعد الممات علينا أن نسأله التوفيق في ذلك، حتى لا نبيع أخرانا بدنيانا بثمن بخس، فنخسر الدارين وما استثمرناه فيهما! فنكون مصداقا لقوله تعالي: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - الكهف آية103-104

صدق الله العلي العظيم