آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

شمس خلف السحاب

وردَ عن الإمام الصادق عن أميرِ المؤمنين أنّه قال: «و اعلموا أنّ الأرضَ لا تخلو من حُجّةِ الله تعالى، ولكن الله تعالى سيُعمي خَلقَه عنها بظُلمِهم وجورهم، وإسرافهم على أنفسِهم، ولو خلتِ الأرضُ ساعةً من حُجّةٍ لساختْ بأهلها» «الغيبة ص 141».

من موارد قاعدة اللطف الإلهي هو وجود الإمام المعصوم الذي يقوم بمهام التبليغ والمرجعية للأمة في كل جوانب حياتهم، ولا يقتصر ذلك على الجانب الفقهي والقرآني فقط كما نجد ذلك في الكلمات النورانية الواردة عنهم والتي تشمل بيان مضامين عقائدية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية تمس حياتهم وتوجهها نحو الأمان والسلامة، فالنعمة الإلهية الكبرى على الإنسان هي العقل المدرك الذي يعي به الأمور ويفهم الحقائق والمعارف ويدله على القاعدة الصلبة للتوحيد، إذ يكفيه في الوصول إلى مبدأ التوحيد من خلال دليل النظام الذي ركب به سبحانه الكون وصنائعه بإحكام وإبداع، ولكنه سبحانه يعلم بمخاطر التشويش الفكري والشبهات التي تعترض الإنسان المؤدية إلى تيهه وضلاله، فعزز جانب الحصانة والوعي والاستقامة عند الإنسان من خلال بعثة الأنبياء وخط الإمامة والولاية امتدادهم.

ويؤكد الإمام على أهم وظائف ومهام الإمام وهي إلقاء الحجة على العباد من خلال تبليغ الأحكام الشرعية والوقوف عند حدودها؛ ليتمايز الناس ما بين ملتزم بتلك القيم والتوجيهات وما بين من عصى وخالف ولكنه أقيمت عليه البينة والبرهان، وهذا الإمام قد يكون ظاهرا بين الناس يلتقون به ويسمعون منه مشافهة تلك الحكم والأحاديث النيرة، وقد يكون غائبا عن الأعين - لحكمة إلهية - حتى يستوفي العدة لحركته الإصلاحية الكبرى والتي معها تتهدم أبنية ورايات الكفر والنفاق والفساد.

وهنا نقطة مهمة تتعلق بالتباين ما بين الظهور والغياب للإمام المعصوم والذي معه قد تنتفي الفائدة من وجوده المبارك، إذ أن الأئمة في الظروف الصعبة التي عاشوها كما هو الإمام الكاظم في السنوات الطوال التي قضاها في السجون والطوامير، وكذلك الإمامان العسكريان اللذان عانا من الإقامة الجبرية لم تخل الفائدة والاستفادة منهم، فقد أقاموا نظام الوكلاء من الفقهاء الذين يتصفون بالورع وحسن الإدارة ليكونوا مرجعية للناس في مسائلهم الشرعية والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهونها، وكذلك في زمن غيبة الإمام المنتظر لم يترك الناس سدى ليكونوا في مهب الريح أمام العواصف التي تجتاحهم، بل جعل الإمام نوابا من الفقهاء العدول الذين يسدون ثغرة الغيبة، ومهمتهم حفظ بيضة الإسلام من الشبهات الفكرية والعقائدية والظواهر السلوكية السلبية.

وتارة نتحدث عن غيبة الإمام عنا بخفاء عنوانه وهويته مع وجوده بيننا لنظم أمورنا، وأخرى نتحدث عن غيبتنا عن الإمام بالغفلة عن المنهج التربوي الذي يقربنا منه ، فمعرفة الإمام لا تقتصر على الجانب النظري من خلال التمسك بالأدلة والبراهين الدالة على وجوده، وإنما هناك المعرفة العملية من خلال الطاعة والتسليم لتوجيهاته وتعاليمه، فالبصيرة حينما يصيبها العمى وتسترسل النفس مع شهواتها وأهوائها والتعلق بمظاهر الدنيا الزائلة حينئذ نخطيء الطريق القويم ونعيش بعدا معنويا عن الإمام فلا تشملنا بركاته والانتفاع من نهجه المبارك، فالإمام المعصوم دليل وطريق لمعرفة الله تعالى وطاعته، ولذا فإن الرشد والوعي والورع عن محارم الله تعالى يحقق رضاه ويقربنا معنويا منه، فمحاسبة النفس وتلمس رضا الإمام من خلال تفحص أعمالنا ليتبين لنا رضاه من سخطه يدل على معرفة عملية به، وطريق التمهيد لظهوره المبارك يعني تهيئة النفس وإعدادها روحيا وأخلاقيا لتكون طوع أمره في الانخراط في الحركة الإصلاحية الكبرى، فإصلاح البشرية مع الإمام يبدأ من إصلاح أنفسنا وتهذيبها.

ثم يبين أمير المؤمنين الغاية من حجب الإمام عن الأنظار في زمن الغيبة الكبرى، فهذه التعمية عن الخلق وسلبهم نعمة الاستصباح بطلته المباركة ناجمة عن قصور في قابليات الناس، حيث أن حالة الفساد والجور والاستبداد المنتشرة بين الناس ستكون سدا منيعا أمام مباديء الإصلاح والرقي المجتمعي المتنعم بالعدالة، ولكن الأمة قابلت النعمة الإلهية الكبرى بوجود الإمام المعصوم بالظلم والعدوان والأذى، فغاب الإمام حتى تتهيأ له مقومات النصرة والتمهيد لحركة الإصلاح الكبرى، فأكبر أعداء الإمام هي عوامل الانحراف والمناوأة والعداء له وهي حب الدنيا المفرط والإسراف على النفس من خلال الاتباع الأعمى للأهواء والخطايا.