آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:44 م

كيف نقرأ النصوص التراثية؟

محمد الحرز * صحيفة اليوم

من أكثر الأسباب التي أبقت على الأغراض الشعرية العربية ولم يتحرر الشعر منها، كما يقول أكثر الباحثين، هو تحولها إلى سلطة ترتبط بالنوع الأدبي.

لكن لنفرق بين الغرض والنوع الأدبي، فالغرض هو الغاية من إنشاد القصيدة، أكان مديحا أو فخرا أو هجاء.. إلخ، بينما النوع الأدبي باعتباره جنسا له أعرافه وتقاليده وأيضا له مؤلفوه المشهورون به، فأبو نواس مثلا عرف بخمرياته، وعمر بن أبي ربيعة بغزلياته، والفرزدق بهجائه وفخره، وهكذا.

فالقصة المشهورة كما يرويها ابن رشيق في العمدة، تشير إلى أنه عندما سمع الفرزدق جميل ينشد: نرى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا.. وأن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا. فقال له أنا أولى به منك.

والأسباب كما يشير إليها كلام الفرزدق هو أنه من قبيلة مضر وهي قبيلة من الحسب والنسب، أين منها قبيلة جميل الذي هو من قبيلة بني عذرة.

يضاف إلى ذلك لم يعرف عن جميل إنشاده شعرا في الفخر. لذلك إذا ما انتحل الفرزدق البيت فلن يضيره شيء، والناس سوف تنسبه للفرزدق حتى لو سمعوه من جميل.

وهذا ما قصدناه من سلطة النوع الأدبي.

في كتابه «الكتابة والتناسخ، مفهوم المؤلف في الثقافة العربية» يقارب الناقد عبدالفتاح كيليطو هذا المفهوم من باب كبير في الدراسات التراثية النقدية وهو باب السرقات والمنحولات، اعتمادا على كتاب الموضوعات لابن الجوزي «510 - 597»، وهو ما يتيح له الانتقال في المقاربة والتحليل من مجال إلى آخر، من النص الشعري، إلى النص السردي، إلى نص الحديث دون معوقات الضبط المنهجي التي تراعي حدود كل مجال. بيد أن القراءة النسقية التي يمتاز بها كيليطو، لا تنشغل بالتأصيل للمفاهيم، ولا في ضبط حدودها التاريخية وشروطه الثقافية، بل يذهب في قراءته مذهب «متعة النص» تحت تأثير رولان بارت، والتأويل غير المفرط عند أمبرتو إيكو، فهو منذ بداية اشتغالاته كان يطرح سؤالا رئيسيا: كيف نقرأ نصوص التراث؟، وكان عنوان كتابه «الأدب والغرابة» دالا على ما سوف يكون اتجاهه النقدي لاحقا، والطريقة التي سوف يتناول بها النصوص التراثية.

ولأجل أن نقرأها قراءة معاصرة دون تعسف، ودون ليّ أعناق النصوص، ودون إثقال كاهلها بكثرة المصطلحات النقدية، علينا العبور بها من حالة الألفة إلى حالة الغرابة، أي أنه يتلمس المناطق الملتبسة في النصوص ويبدأ منها لقراءة النص، حيث ينطلق من اللغة متجها إلى الخطاب، ثم يعود في تحليله من الخطاب إلى اللغة.

المجازات والاستعارات هي المناطق الملتبسة في النصوص التي من خلالها يمكن العبور بالنص إلى الغرابة المقصودة، فمثلا مقاربة النصوص الجيدة من الرديئة في الخطاب النقدي التراثي يتم من خلال تشبيهها بالصيرفة: فهناك نقود أصلية وأخرى مزيفة.

وكل دلالة لفظية تتعلق بالصيرفة تستدعي ما يناظرها من ألفاظ أخرى ضمن حقله الدلالي. وهكذا تمضي القراءة لتعيد تركيب صورة النص ومعناه من جديد.

ولو أخذنا مثالا آخر عن صورة الكتابة التي يستدعي دلالتها من وقوفه على مطلع قصيدة طرفة: لخولة أطلال ببرقة ثهمد.. تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.

أو قصيدة لبيد: وجلا السيول عن الطلول كأنها.. زبر تجدُّ متونها أقلامُها.

الكتابة في إحدى دلالتها العميقة هي ارتباطها بالطلول التي لا تندرس ولا تختفي مهما جرى السيل وأخفاها، ومهما طمر معالمها، فهي مثل الكتب التي تخطها الأقلام وتتجدد، ومثل الوشم المكتوب على اليد الذي لا تمحى آثاره.

يمكن أن نشير إلى أمثلة أخرى في مقارباته مثلا في مفهوم النسخ أو تعدد دلالات الانتحال كما في نصوص الجاحظ. لكن نود أن نخلص إلى نتيجتين: الأولى يعطي كيليطو في قراءته للنصوص مثالا على المتعة من جهة، وتفكيكا للمفاهيم التي تعودنا عليها للقراءة من جهة أخرى. وهذا أحد أسرار انتشاره عند القراء.