آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 6:07 م

تحديات العام 2023: الترفيه والتطور الاجتماعي «11»

الدكتور إحسان علي بوحليقة * صحيفة مال الاقتصادية

عند الحديث عن الترفيه، فليس الحديث عن سينما أو مسرح. بل الحديث عن قطاع اقتصادي لا غنى لأحدٍ عنه. تخيل ما الذي يفعل كل منا على مستوى الأسرة لاصطحاب أطفالها في نشاط خارج المنزل وخارج المدرسة، لاقتسام لحظة أسرية، أو لإكساب الطفل مهارة أو قدرة؟ وليس شرطاً أن يكون ذلك في مكان بعيد أو نضطر لندفع له الكثير من المال، فالمهم هو الاتاحة وتوفير الممكنات. وبالقطع من يذهب باله بعيداً ليتصور أن الترفيه والترويح مرتبط بالضرورة بأفعالٍ مشينه، فهذا شخص يعاني من“فوبيا”عليه أن يتعالج منها.

علينا أن نقر أن مدننا وبلداتنا بحاجة لما يعزز جودة الحياة والسعادة. ولا أدعو هنا بالضرورة لإطلاق وزارة للسعادة، فالسعادة لوحدها لا تكفي فهي جزء من أجزاء. ثم، قد يكفي ان تطلق الرؤية السعودية 2030 أهدافها ذات الصلة بالارتقاء بجودة حياة السكان «مواطنين ووافدين على حدٍ سواء»، أن تطلقها وتدفعها للمقدمة، بهدف الإنجاز المُعَجلّ. وهناك من قد يظن أن المناداة بالارتقاء بجودة الحياة أمر قد يأتي لاحقاً، باعتبار أن ليس له أولوية! ولكن ما“جودة الحياة”؟ جودة الحياة هي حالة يتصف بها الشخص المرتاح المعافى والسعيد. وهكذا نجد أن“السعادة”ليست حالة منفصلة، بل متصلة، لها اشتراطات سابقة وأخرى لاحقة، ولن تتحقق السعادة إلا بتمام ما قبل وما بعد.

ومع ذلك أعود للقول بأن تحقيق أساسيات الحياة تتطلب معالجة الفقر وكبحهِ وقهره. ولابد من فهم أن تركيز الدعم لتوفير احتياجات الأسر الفقيرة بالكامل ضروري لرفعها من تحت خط الفقر والوصول بها لخط الكفاف، وبذلك تصبح تلك الأسرة الفقيرة خارج الصراع من أجل تحقيق أساسيات الحياة، بما يمكنها - بالتالي - من الانتباه لما حولها والاستمتاع به، والسعي لتعليم أبنائها والاهتمام بهم ليكبروا ويتعلموا ويتمكنوا من اقتلاع الفقر من أسرتهم، وتصبح سبل الحياة متسعة لهم، شانهم شأن أي مواطن آخر، ليأخذوا فرصتهم كاملة في بناء الوطن وتحقيق ذواتهم، بما في ذلك الارتقاء بجودة حياتهم والالتفات للترفيه والترويح عن النفس.

والأمر بالنسبة للأسر التي فوق خط الفقر يمكن اختزاله في سؤال: ماذا يمكن أن نفعل لها؟ نريد لها أن تتجاوز خط الكفاف، لتصل إلى البحبوحة، وبذلك ستشعر بمزيد من الاستقرار. بمعنى أن الهدف دفع كل الأسر لتحقيق المزيد من النجاح. إذ ان اهتمام المجتمع لا يتوقف - ولا ينبغي له - عند إخراج الفقير من فقره ليقف عند عتبة الكفاف، بل أن يغدو كل فرد من سكانه“مرتاح ومعافى وسعيد”! قد يكون هذا مطلباً مثالياً، ولكن هذا ما يسعى له كل شخص مسؤول عن أسرة، أليس كذلك؟ الأب والأم يسعيا جهدهما لتحقيق ذلك لأفراد الأسرة صغار وكبار. هي سمة من سمات التكافل في مجتمعنا، لمساعدة من لم تمكنه ظروفه من الاعتماد على نفسه بل اضطرته لطلب مساعدة - من نوع أو آخر - من الآخرين.

لكن اهتمامات المجتمع المزدهر لا تتوقف عند إسعاف المحتاج، إذ أن طموح مجتمعنا ليس القضاء على الفقر، بل الازدهار والنمو والاستقرار الاجتماعي - الاقتصادي المستدام، والارتقاء بجودة الحياة لكل من يعيش هنا، وهو بلا شك مطلب عملاق، يستوجب منا الكثير. ولذا، فعند الحديث عن الترويح والترفيه، فالحديث هنا لا ينحصر - ولا ينبغي له - في الذهاب للعروض السينمائية أو المسرحية أو الموسيقية أو أن نسافر لمدينة قريبة أو لدولة شقيقة مجاورة أو لبلاد بعيدة، بل أن تملأ“جودة الحياة”وجداننا، ولذلك متطلبات ومعايير ومؤشرات.

مؤشر“التطور الاجتماعي”، هو مؤشر على مستوى الدولة، يتناول التأثير الاجتماعي «وليس الاقتصادي» لما يُنفق، حيث يشمل مؤشر توفر الاحتياجات الأساسية، إضافة لمؤشر جودة الحياة، ومؤشر تكافؤ الفرص. والمحاولة الأولى لاحتساب قيمة مؤشر التطور الاجتماعي للدول كان من قبل مجموعة من الجامعة المرموقة“معهد ماساتشوستس للتقنية”، لتحل النرويج والدنمارك وفنلندا وسويسرا وأيسلندا في الصدارة.

أعود لنقطة البداية، أن الحديث عن الترفيه ليس منفرداً بذاته، بمعنى أن الحرص على الترفيه لا يمكن أن يكون معزولاً في سياقهِ عن الاهتمامات الأخرى، بل مكمل لها، فالمُعدَم قد يكون“سعيداً”بما يملأ جوفه، لكنه ما أن يُشبِع جوعه حتى يستشعر آلامه وبرده وتشرده، وهكذا فاحتياجات الإنسان تراتبية، ما أن تُشبِع الأساسي منها حتى تُطلِق الحاجة التي تلي وهكذا. وعند الحديث عن ملايين الأسر، ستجد أن أوضاعها - بالضرورة - متفاوتة؛ منها الواسع الثراء ومنها من تعيش بحبوحة، ومنها عند حد الكفاف، ومنها الفقيرة، كذلك تتفاوت احتياجات الأسر الاجتماعية، ولذا فلابد من السعي لتوفير كامل سلسلة القيمة لجودة الحياة، وإيجاد ممكنات والدعم الكافي لترتقي الأسرة من حال لحال، فتشعر بالارتياح نتيجة لتحسن أوضاعها باستمرار، وبذلك تصل لحالةٍ من الرضا والتفاؤل، ومن ثمة السعادة. إذاً فالقضية ليست مأكل أو مسكن أو خدمات صحية، بل منظومة متكاملة نسعى جميعاً لبنائها وتقويتها من أجل سعادتنا والأجيال القادمة، وينتج عن ذلك تحسن الإنتاجية والارتقاء بالتنافسية وتواصل الازدهار.

كاتب ومستشار اقتصادي، رئيس مركز جواثا الاستشاري لتطوير الأعمال، عضو سابق في مجلس الشورى