آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 1:42 ص

الأحساء والإرث الاقتصادي

الدكتور إحسان علي بوحليقة * صحيفة مال الاقتصادية

بعد تعرفي على الآثاري السعودي الحاذق د. عبدالله المصري، منذ سنوات ليست بالقليلة، أدركت أن ما كنتُ أسمعهُ في صبايّ وأقرأه متناثراً هنا وهناك هو أمرٌ لا يبعد كثيراً عن حقيقة مفادها أن أوتاد التحضر ضاربةٌ في الأحساء منذ آلاف السنين. فقد كان حديثه مذهلاً عن أعمال تنقيب علمية ومنهجية أجريت في بعض قرى الأحساء إبان تحضيره لاطروحته لنيل الدكتوراة من جامعة شيكاغو. وقابلت بعد ذلك العديد من الآثاريين المرموقين ومن أبرزهم د. عبدالرحمن الأنصاري الذي جمعتني معه مقاعد الشورى، ود. سعد الراشد، ود. علي المُغَنمّ الذي طال الحديث بيننا عن الجهود التي تبذلها الدولة لاستكشاف المكنوز الآثاري، وله مؤلفاتٍ أحدها عن جواثا «أو جواثى».

تاريخياً، امتلكت الأحساء اقتصاداً منوعاً؛ فقد كانت تُرسل تمورها ومحاصيلها الزراعية للمناطق المجاورة والبعيدة، وكانت أسواقها مقصداً للمتبضعين من سائر البلدان المحيطة، حيث تتوفر البضائع ويتنافس عليها التجار بيعاً وشراءً. وبحكم انتشار الصناعات التقليدية منذ قرون، فتجد تدرجاً في الجودة؛ ففي دنيا الهدم والمشالح - مثلاً - تجد تفاوتاً من حيث النسيج والحياكة والتطريز اليدوي. وفي الزراعة، فنظام الريّ إتسم ليس فقط بتجنب البَخَرّ وبدقة توزيع مياه الري، بل بتصريف وتدوير المياه للري أكثر من مرة، ومن هنا أتت مفردات مثل“طايح وطايح الطايح”، فالطايح هو ماء صرف المزارع، الذي كان يستخدم في ري المزروعات الأكثر تَحملاً لمستويات أعلى من الملوحة، كما أن في ذلك تطبيق والتزام بمبدأ الاستدامة التي تتصدر المنابر هذه الأيام، من خلال: الاستخدام المتعدد والمتتابع والمُقتصدّ للمورد النادر «الماء» والقائم على السعي الحثيث لتعظيم عائد“سلسلة القيمة”value chain، بما أوجد تنوعاً في المحاصيل من تمور وفواكه «ولا أنسى البوبيّ أو“البابايا”» وورقيات وحتى الأرز.

وباعتبار أن الاقتصاد ظاهرة اجتماعية يعتمد عموماً على جهد وحذق الموارد البشرية، فالقيمة الاقتصادية الأهم هي الفرد، فالعيب - في الأحساء - ليس أن يعمل براتب بسيط «أجيراً» بل العيب كل العيب أن يتسكع القادر على الكدّ طوعاً. وفي الإدارة، فسنامها ليس التضييق بل تحفيز العامل، وهو مرتكز وضعه“تايلور”في إدارته العلمية قبل قرن من الزمن، لكنه كان يُطبق هنا منذ قرون بأن يتفق مالك النخل مع“شريك”بأن يعتني الأخير بالنخل مقابل حصة من المحصول، وكان“الشريك”يدير بعقلية ودوافع المالك بما يُحَسنّ العائد ويحدّ من المصاريف. هذه المفاهيم في التنافسية والارتقاء المستمر بالجودة صَنعت في الأحساء اقتصاداً تقليدياً لم يشق له غبار في منطقته في حقبة ما قبل النفط. الإرث الاقتصادي للأحساء، على مستوى النظرية والتطبيق، لا يقلُ إشراقاً وحذقاً في حقبة رؤية المملكة 2030 عن إشراقة ما يختزنهُ جوفها من موارد هيدروكربونية.

كاتب ومستشار اقتصادي، رئيس مركز جواثا الاستشاري لتطوير الأعمال، عضو سابق في مجلس الشورى