آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:17 م

صديق بامتياز

بدأت الألفة بيننا باكرا… هو في عامه الأول وأنا في عامي السابع ولكنه فاقني حجما بمراحل، كنت أحيانا أذهب إلى حيث مسكنه لأتناول معه بعض الأطعمة التي آخذها خلسة من بيتنا، وأتلذذ بمشاهدته يأكل بشراهة وسرعة، حاولت أقلده مرارا ففشلت وأخيرا سلمت له بهذه الميزة.

ازدادت الفتنا أكثر عندما كان يصحبنا إلى السوق أنا وجدي وأبيه.

كان عندما يشاهدني اقترب منه أشعر به يكاد يطير فرحا يضرب الأرض بقدميه ويهز رأسه فامتلئ زهوا بنفسي.

كبرنا معا… كان يذهب مع الأسرة صباحا إلى العمل وأنا أذهب إلى المدرسة.

دمث الأخلاق هادئ مطيع لا يتذمر ولا يتأمر صامت صبور لا يشاهد نفسه في المرآة عشرات المرات في اليوم مثلما أفعل. ولا يشغل باله بالكتب ولا «زعيق» الجد وديكتاتورية الوالد ولا انتخابات البلديات ولا الإصلاح… ولا غيره.

ورغم أنهم كانوا ينعتونه بالغباء وعدم الحكمة إلا أنني كنت أجده أحيانا أذكى من الكثيرين.

كنت أستغرب من ذكائه عندما يصحب جدي «الكفيف» إلى المسجد وينتظره حتى يفرغ من صلاته ليعود به ثانية دون احتكاك بأحد ودون أن يوجهه أحد إلى الطريق حتى في الظلمة.

ظلت هذه الأواصر تربطنا منذ مرحلة «الجحوشية» عندما كان صغيرا إلى أن أصبح حمارا ناضجا وأصبحت أنا شابا يافعا يهتم بالأدب وبالبحث في شجرة عائلته الحميرية التي ظننت أنني أمت لها بصلة ما «وإلا فما سر هذا الود الذي يربطنا وهذا الامتنان الذي يظهر على وجهه عندما يراني حتى إنه كاد يلقي بجدي على الأرض عندما أسرع ليقابلني في إحدى المرات».

كنت أطلق عليه «.....» لا داعي لذكر الاسم حتى لا اتهم بالتعصب ولكي لا يظن أحدكم أن اسمه قريب من الاسم الذي سمي به «حاشا». القصد أن صداقتي له دفعتني لأن أقرأ في أدبيات الحمير وكانت رحلة شيقة في معرفة تاريخ هذا الكائن الذي رافق الإنسان منذ «5000» سنة… قرأت ما كتبه «شارل بير» عام 1694 م وما كتبه توفيق الحكيم عن حمار الحكيم وقرأت «مذكرات حمار» التي كتبتها الكونتيسة «دوسيجير» وما كتبه الشاعر النوبلي «نسبة إلى نوبل» الإسباني خمينيث وبالطبع قصيدة فكتور هو جو التي مجد فيها صبر الحمير ومن ينسى حمار أخينا «سانشو» الهزيل الذي رافق حصان دون كيشوت أو حمار عمنا جحا. أو غيرهم.

«أمجاد الحمير» كثيرة ولديهم ولاء عجيب فعندما كنت أشاهد جمعهم في السوق أو في ساحات التجمع عند العزاءات أو الأفراح أجدهم يتحدثون في صمت ولم يحدث بينهم شجار أو اعتداء من أحد على الآخر أو اغتصاب حقه في الطعام ينظرون إلى بعض في صفاء وود دون طمع أو جشع أو صراع.

صدقوني كنت أحسدهم أحيانا أقول لنفسي يا ليتني كنت حمارا بالطبع لا أقصد الخروج من آدميتي ولكن أقصد حمارا في الطبع والأخلاق.

أعود وأقول ما الفرق: هم صابرون وأنت صابر هم راضون وأنت مرغم على الرضا، هم يحملون البشر وأنت تحمل هموم البشر وهي أثقل بكثير، هم صامتون وأنت لا تستطيع أن تفتح فمك لتقول لا، أوجه الشبه كثيرة في التصرفات والقناعات المرغمة.

لذا أعجب من ضيق البعض عندما يقال له يا «حمار» أعزكم الله ولا أقبل أن يسيء أحد إلى الحمير فلا يعيبها شيء إلا أصواتها وهي لا تستخدمه «عمال على بطال» كما يقول إخواننا المصريون بل فقط عند الطلب. فهل منا من يفعل ذلك؟

كاتب سعودي، عضو مركز آفاق للدراسات والأبحاث