آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 4:55 م

رئيس الصدفة ولمدة 8 ساعات فقط

عبد الواحد العلوان

أعمل كممرض في أحد مستشفيات الصحة النفسية الحكومية، ما يقارب العشر سنوات، ومن الخدمات التي نقوم بها الرقابة التمريضية والأمنية بنفس الوقت، رعاية المرضى الصحة النفسية، ومرضى الإدمان، ومرضى العجزة المسنين، وتلبية حاجتهم، وخدمتهم وتهذيب مظهرهم والعمل على راحتهم، وتجنيبهم أي خطر وشيك الوقوع من أسباب مرضية أو قهرية.

ها وقد حدث معي ذات يوم.

أنني وصلت لموقعي في العمل الذي أعمل به في أحد المستشفيات كأخصائي تمريض، وكانت مناوبة آخر ليل، متأخراً 10 دقائق، وعلى غير العادة التأخر في الحضور للعمل، بل العكس مواظباً على الحضور المبكر بفارق 40 دقيقة أو نصف ساعة على الأقل قبل مناوبتي.

تحدثت عبر الهاتف وأنا بالطريق مع زميلي في المناوبة السابقة، وأخبرته بأنني سأتأخر قليلاً؛ نظراً لظروف الطريق وازدحامه بسبب حادث مروري، فقال لي لا عليك بانتظارك وتوصل بالسلامة.

فعلاً وصلت مقر العمل لقسم التنويم الذي أعمل به، وتم فتح الباب وتسليمي المناوبة وزملائي وهم يهمون بالخروج وتسليم المناوبة أخبروني بأن زميلي الذي سيكون معي في مناوبتي هذه الليلة لديه ظرف مرضي لابنته، وزميلي الآخر لديه إجازة طارئة كذلك، وأنت الليلة قائد المناوبة، والذي سيقود مناوبة هذه الليلة «رئيس الوردية».

وفي المناوبة، والتي مدتها 8 ساعات يصبح 4 ممرضين، ولو صار ونقص العدد يطلب تغطية من أقسام التنويم الأخرى ليكتمل العدد، ولكن هذه الليلة وفي هذه المناوبة أحتاج لعدد 2 ممرضين للتغطية معي لاكتمال نِصاب المناوبة.

أخبروني زملائي قبل تسليمهم المناوبة لديك، فلان من قسم التنويم 4 سوف يغطي فلان، وفلان من قسم التنويم 1 سوف يغطي فلان، ومعي أحد الزملاء حاضر مساعد ممرض، رفعت السماعة لأقسام التنويم وطلبت الزميلين الذي يغطون زملاءهم الغائبين، وأخبروني بحضورهم للقسم.

وفي الغالب الهم الأكبر لرئيس المناوبة، بأن تمضي المناوبة بلا أكشن، وبلا أحداث عصيبة، منها لا سمح الله أحداث طارئة، كالوفيات، السكتة القلبية، الدماغية، أو أحداث مرضية فيها احتكاك بين مريض ومريض وتهيج، أو أحداث مرضية تتطلب طوارئ عاجلة، أو أحداث تتطلب تدخلاً سريعاً فهنيئاً لرئيس كل مناوبة أن يسلم مناوبته بسلام وهدوء بلا أحداث طارئة تسجل في المناوبة.

وصل الزملاء وبدأت مهامي كرئيس مناوبة، وبدأت أفرض سلطتي وقيودي على المناوبة، وأخبرت الجميع بأنني هذه الليلة رئيس المناوبة ورئيس لمدة 8 ساعات بناء على تكليف الرئيس السابق للمناوبة، وبناء على تكليف الرئيس العام للتمريض السوبرفايزور للمناوبات، الله يعينكم معي هذه الليلة، ضحكوا وضحكت.

بدأت فعلياً أخذ مهام الرئيس في التشييك والفحص على مرضاي النائمين على أسرتهم، وإحصاء عددهم، والتأكد من أن كل مريض منهم في فراشه، وأن العدد مضبوط ومطابق لما هو مكتوب في كتاب أحوال التسليم والاستلام.

ومن ثم أخذت في الذهاب لغرفة العلاجات، وهناك الأجهزة الطبية، التي لا بد أن نعمل لها تشغيلاً والتأكد من أنها تعمل على مدار الساعة، وفي كل مناوبة لابد كل رئيس مناوبة له من التأكد من هذه الأجهزة الحيوية تعمل ونشطة، وكذلك توقيع بعض المستندات لبعض العلاجات الخاصة والتي تعتبر كنترول، وخاصة جداً للمرضى.

عدت إلى كاونتر التمريض، وبدأت بالحديث مع زملائي مرة أخرى، أنا هذه الليلة سأفرض عليكم قيود سلطاتي وقراراتي وسلطتي المطلقة، فقالو بصوت واحد ماذا.؟!

أنا رئيس لمدة 8 ساعات. وستنتهي ال 8 ساعات وتنتهي مهام رئاستي فيها.!

فأخبرتهم بأنني رئيس في هذه المناوبة ولأول مرة أُصبح فيها رئيس ولأنني أعلم أنها لن تدوم، فلذلك سأستخدام كافة صلاحياتي وقراراتي، ووجب عليكم التنفيذ بناء على سياسة العمل، وما تقتضيه المصلحة العامة للعمل.

فقالو ماذا يعني سلطاتك وقراراتك، قلت يعني أننا نعمل بروح الفريق الواحد، وأننا نتقاسم العمل مع بعضنا البعض، ونتقاسم النشاط والمهام جميعها، وكل منا عليه مهام، ولديه نشاط يقوم به، حتى آخر ساعة وآخر دقيقة من المناوبة، وأننا جميعاً مسؤولون عن كل هذه المناوبة وما يحدث فيها، لذلك نكن مستعدين لأي حدث طارئ.

وبحكم عملنا في مستشفى والطوارئ تعمل على مدار الساعة، والحالات الطارئة لابد أن نتوقعها في كل دقيقة، أنا لا أسمح بالمرونة والإخلال في العمل، وبهذا علينا أن نلتزم ونُصبح نشيطين، ولا نركن لزاوية ونرتاح وننام، أو نقوم بالخروج من القسم لأخذ جولة خارج القسم، أو زيارة زميل في قسم آخر، أو الذهاب لغرفة التمريض وأخذ قسط راحة، كل هذا في مناوبتي ممنوع منعاً باتاً.!

ضحكوا وابتسموا، مع الأخذ بجدية القرار والسلطة التي واجهوها ونظروا إلي بنظرة الصدمة غير التي كانوا ينظرون إلي بها قبل الرئاسة، وقال أحدهم معك حق يا صديقي، أنها مسؤولية، وكلامك حقيقة يدل على أنك مسؤول، فأخبرتهم بأنني لي عشر سنوات في هذه المنشأة لم تغف لي عين، في أي مناوبة، ولو كانت مناوبة الليل، والمرضى نيام، لدي الوقت لأرتاح وأخذ قسط راحة ولكن والله لم أفعلها يوم ماء.

ومع هذا وذاك، فإنني مرن جداً في كل ما يتعلق بالعمل ونجاح هذه المهمة هذه الليلة إن شاء الله، فأخذت فناجين القهوة وطبق الحلى وناولته زملائي، وأخبرتهم مع كل هذا لا يعني أننا لا نستأنس هذا الليل الطويل، وننبسط به وبالدردشة معكم والتعرف على بعض أكثر، وعلى جوانب بعضنا البعض، ونتعلم من بعضنا البعض بحكك فوارق الخبرة والسنوات اللي عملنا بها مع بعض.

قال لي أحد الزملاء، عرفتك يا صديقي الآن أنك جدي.!

وتأخذ الأمور العملية بجدية كبيرة، فأخبرته صحيح وليس لدي تقاعس، وليس لدي تماهل في كل ما يتعلق بالعمل، ولو ليس لدي ما أعمله، سأبقى مكاني ومراقب مرضاي وحاجتهم، وأقف على احتياجهم إلى أن تُقضى ساعات مناوبتي، وهذه هي وظيفتي التي تكمن بين الرقابة والخدمة التمريضية وتلبية احتياجات المرضى الذين غالبيتهم مسنون، وبحاجة من يستندون عليه ويدعمهم بحسه الوظيفي، فحقيقة أنا جدي وأفخر بذلك، وأنني رقيب نفسي ولدي ربي يراقب عملي.

مرت ساعات المناوبة بسرعة فائقة، وتقاسمنا كافة مسؤوليات العمل برضاء وابتسامة وروح التعاون التي رسمتها حدود العمل وسلطة المناوبة، وأمضينا وقتاً لفترة 8 ساعات نتحدث مع بعض وكأننا في مدرسة، ونتعلم من بعض، كل منا لديه تجاربه وهمومه وظروفه، والزملاء فيما بينهم يتجاذبون أطراف الحديث ليحلو السهر، ويمضي الوقت، وإلا تُصبح المناوبة الليلية طويلة جداً جداً إذ عشتها لوحدك وبين جوالك والتصفح فيها وزوايا أفكارك.

ظهرت شمس الصباح وحانت الساعة 7 والنصف صباحاً وهي وقت تسليم المناوبة لرئيس المناوبة الصباحية، وبدأوا الزملاء الفترة الصباحية بالوصول، وكل زميل منا سلم مرضاه للزميل المسؤول عن فئة المرضى الخاصة به بالمقابل، والحمد لله كانت مناوبة لطيفة ومسؤولية وسُلطة ظريفة وخفيفة، مليئة بالتقدير والاحترام.

غادرت المستشفى وأنا مثقل بالمسؤولية التي وقعت على عاتقي، وصحيح أنني قدها وقدود، ولكنها مسؤولية ثقيلة، الرئاسة والمسؤولية والسلطة والقرار والصلاحيات جميعها في يدك، وتستطيع استخدامها لتنهض بالعمل، وتنجحه أو تُضعف العمل، وتجعله سيئاً ورديئاً، ما لبعض الناس تركض وتهرول لملئ الكراسي، وتتحارب وتتنافس على الكراسي التي مسؤوليتها جداً كبيرة وثقيلة، وقد تكون هم كبيراً، وأمام الله وأمام مديرك العام مسؤول عن كل شيء.

وصلت لمنزلي وأنا أشعر بأنني أديت عملاً جميلاً وجباراً، وقلت في نفسي يا لها من رئاسة سلطة وقرار الذي لم يدم طويلاً، وضحكت وابتسمت بنفس الوقت، وعدت اليوم التالي لنفس المناوبة مرؤوس وموظفاً عادياً واستلمت مهامي وعملي الموكل إلي كالعادة، وانتهى تكليف رئيس الصدفة.