آخر تحديث: 29 / 4 / 2024م - 1:36 م

ثقافة الاستقلال

محمد أحمد التاروتي *

الاستقلالية التامة، ليست ظاهرة صحية دائما، فهي من الامراض النفسية، التي تتطلب التدخل العلاجي، لاعادة التوازن مجددا، وللخروج من الانطوائية، والانعزال الكامل عن المجتمع، فالاندماج مع الاخرين امر اساسي، لقضاء الكثير من الاحتياجات، الضرورية واليومية، مما يفرض استعانة البشر، الى بعضهم البعض، في مختلف المجالات الحياتية.

فيما يمثل الاستقلال الثقافي، مطلبا اساسيا لدى النخب الفكرية، باعتباره مرتكزا هاما في الحفاظ، على الهوية الشخصية للمجتمع، فالذوبان الفكري التام في الثقافات الاخرى، يمثل مدخلا خطيرا لاندثار الكثير، من المقومات الذاتية، الامر الذي يفسر الحرص الكامل، على تثبت اركان القواعد الاساسية، للهويات الثقافية، لمختلف المجتمعات البشرية، خصوصا وان التنازل عن الثوابت، يمثل تحولا خطيرا، سواء في المرحلة الحالية، او المراحل القادمة.

الاصرار على المرتكزات الثقافية الشخصية، للحفاظ على الهوية الخاصة للمجتمع، ليست مدعاة للانغلاق، والتقوقع داخل اطار ضيق، حيث يمثل الانفتاح احد العناصر الاساسية، لتوسيع المدارك والاستفادة من التجارب البشرية، خصوصا وان الثقافة ليست مرهونة، بقناعات شخصية، او مفردات محددة، بل تشمل الكثير من المفاهيم المكتسبة، عبر الاحتكاك مع الاخرين، بمعنى اخر، فان تشكيل الهوية الثقافية، يتطلب الحرص على الاحتفاظ بالثوابت، ومحاولة صقلها بالحوار، مع الاخرين، من خلال التركيز، على ما يتوافق مع التطور البشري، والاستغناء عن الموروث الخاطئ.

الاستقلال الفكري، يتطلب وضع الاطار المناسب، لنمو النخب الفكرية القادرة، على العطاء، فالفكر نتاج جهد بشري متراكم عبر العقود، بحيث يمر بمخاض عسير، لاستخلاص الصالح وطرد الطالح، بمعنى اخر، فان الافكار التي تطرح تكتسب شرعيتها، من النقاش الطويل، والحوار الدائم، بين اصحاب الاختصاص، فالمسلمات لم تأت من فراغ، وانما جاءت بعد صراعات فكرية، في المحافل الخاصة، والندوات المتخصصة.

امتلاك زمام الاستقلال الفكري، او الثقافي، مرهون بوجود البيئة المناسبة، حيث يمثل المناخ الدائم، لحرية التفكير، ابرز المتطلبات، فاصحاب الفكر الاستقلالي، لا يتحركون بحرية، في البيئة الضاغطة او المتخلفة، مما يدفع شريحة واسعة، من النخب للبحث، عن المجتمعات المنفتحة، خصوصا وان التعبير عن الفكر المستقل، يتطلب حرية كاملة، نظرا لقدرة السلطة الاجتماعية، على ممارسة ضغوط كبيرة، على النخب الفكرية، بهدف اسقاطها، او اجبارها، للتراجع عن بعض الافكار، والقناعات الخاص، لاسيما وان بعض الافكار، لا تروق لشرائح اجتماعية، مما يدفع بعض الجماعات، لتحريك عناصر الضغط للتحرك، بشن حملة اعلامية مضادة.

التاريخ الاسلامي، حافل بتجارب مريرة، تجاه النخب الثقافي المستقلة، حيث يمثل الحفاظ على التقاليد الاسلامي، ابرز الشعارات المرفوعة، للتنكيل باصحاب الفكر التنويري، والمستقل، فكتب السيرة، تتناول بالتفصيل عمليات الاغتيال، والقتل، تجاه بعض المفكرين، سواء خلال القرون الاولى، او القرون المتأخرة، اذ يعتبر السجن اقل الاحكام الصادرة، تجاه تلك الشخصيات المستقلة، الامر الذي يكشف حقبة زمنية مظلمة، عاشها التاريخ الاسلامي.

الحرية التي تمتع بها، البيئة الثقافية الاوروبية، في الوقت الراهن، لم تأت بدون تضحيات، فقد جاءت على انهر من دماء النخب الفكرية، خلال القرون المتأخرة، حيث ينقل التاريخ الكثير، من عمليات الاعدام العلنية، لشخصيات تمردت، على سلطة الكنيسة، وكان مصيرها، مقاصل الاعدام، في الساحات العامة.

كاتب صحفي