آخر تحديث: 5 / 5 / 2024م - 1:31 م

حامل المسك ونافخ الكير

علي صالح البراهيم

«إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنه».

لازلت أذكر هذا الحديث واحفظه جيدا عن ظهر قلب منذ دراستي في المرحلة الثانوية. وكيف أن المعلم قد بين أن الصديق له تأثير كبير على حياة الإنسان، فهو إن كان صالحا فهو كبائع المسك أو الطيب أما أن تستفيد منه باهدائك هذا الطيب أو تبتاعه منه أو على الأقل سينتشر عبق طيبه على ثيابك، حتى لو لم تشتري شيئا منه، إذ أنت الرابح في كل الأحوال ولن تتأذى بمجالسته بل حتما ستزداد رفعة وبهاء. أما الصديق الطالح فهو كنافخ الكير، والكير هو حانوت الحداد يكون له مثل البوق ينفخ فيه لتتوقد النار من على الحديد، وبسبب عملية النفخ تصدر رائحة كريهة ومنتنة ويكون هناك شرر كثير متطاير ونار ملتهبة قوية، ولو مررت عليه إما أن تشتم تلك الرائحة النتنة وإما أن تشعر بسخونة النار المتوقدة وإما أن يتطاير الشرر على ثيابك فيحرقها. بالتالي أنت الخاسر بكل الأحوال وستتأذى بمجالسته ولن تجده إلا مصدرا للإزعاج والقلق والضيق.

وأسلوب التشبيه في الأحاديث هو أسلوب رائع ومتقن هدفه الإيضاح والتبيين وتقريب الفكرة بالأذهان وتمكينها في ذهن السامع، وهذا الأسلوب متبع كذلك في العديد من الآيات القرآنية كقوله تعالى في الآية «5» من سورة الجمعة ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا.... إشارة إلى اليهود الذين علمهم نبيهم موسى - عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام - التوراة ومافيها من العلوم والمعارف ولكنهم لم يعملو بها فحملوها وكأنهم لم يحملوها كمثل الحمار الذي يحمل الأسفار ولايعرف ماتحتويه من الحقائق والحكمة وليس له من حمله إلا الجهد والمشقة... وفي آية أخرى «176» من سورة الأعراف يقول الحق تعالى ﴿... فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ..... اللهث هو دلع اللسان من شدة العطش. والكلب كما نعلم هو على الدوام يلهث سواء كان عطشا أم لا، فهي سجية متأصلة فيه وسواء زجرته أو منعته أو تركته فإنه لاينفك عن هذا الطبع «اللهث» كذلك من تتكرر على حواسهم الآيات والبينات والدلائل الواضحات، ويتكرر التكذيب منهم فهي سجية نفسانية خبيثة لازمة لهم سواء وعظتهم أم لم تعظهم، فإنهم لايدعون ماهم عليه من خلاف أمر ربهم.

وأهل البيت كذلك استخدموا التشبيه في كثير من اقاويلهم، والتي أضحى صداها يتردد بالأذهان مهما تعاقب عليها الزمان. كقول الإمام الحسين وذلك عند عزمه الخروج وملاقاة القوم في واقعة كربلاء إذ يقول: «خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ألى آخر كلامه..». فهو يشبه الموت والذي هو حتمي وكائن لامحاله ولامجال للفرار منه بأنه يحيط بالمرء كما تحيط القلادة بعنق الفتاة...

وبالعود إلى الحديث الأول الذي بدأنا به المقال، والذي يتكلم عن الجليس الصالح وجليس السوء وتشبيهه بحامل المسك أو نافخ الكير. فإنه لاشك أن الصديق مؤثر سواء في أقواله وأفعاله أو في توجهاته ومعتقداته ولك أن ترى وتعرف أن من يزاحم العلماء والأخيار في مجالسهم ويتغذى بنور العلم والحكمة في تلك المجالس، فإنه يتسم بسجاياهم من حيث التواضع والصدق والحلم والرحمة والأدب. ومن يزاحم أهل اللهو والباطل ويتوكأ في مجالسهم والتي طابعها السباب والشتائم والفسق والرذيلة فإنه من حيث لايدري يتوسم بالباطل، وينغمس في وحل الشهوات والغفلة وسوء الأدب.

وأتذكر مسلسلا قديما كان يعرض في شهر رمضان المبارك وقت السحر، وأظن أسمه «نوادر العرب» أو «حكايا من ظرفاء ولكن»، حيث أن هناك رجل يريد أن يختبر أصدقاءه الثلاثة، وينتخب منهم الصديق الطيب فأشارت عليه زوجته أن يستضيفهم على إنفراد كلا على حده وبكل ليلة واحد، ويقدم للضيف وعاء فيه ثلاث بيضات فمن يأكل منهم البيضات الثلاث أو يأكل اثنتين ويترك لك واحدة فهو يتصف بالأنانية والجشع ولا خير في صحبته، ومن يأكل بيضة واحدة ويدع لك أثنتين فهو يتصف بالبخل والذي هو من الصفات الذميمة وصاحبه لا يعرف للكرم طريقا، ومن يتقاسم بينك وبينه البيضات الثلاث بالتساوي فهو إنسان عادل ويحب أن يعامل الآخرين كما يحب أن يعاملوه فالزم صحبته، وكان كما قالت. ولكن بغض النظر عن صحة هذا الإجراء المتخذ أم لا إنما أوردنا هذه القصة وهذا المثال بغرض التسلية وبيان ضرورة انتقاء الأصدقاء الطيبين كما ينتقي الطير الحب الجيد من الحب الرديء. وما أكثر ما قاله الشعراء وأبدعوه عند تخير الأصدقاء.

قال عدي بن زيد:

إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ** ولا تصحب الأردى مع الردي

عن المرء لا تسل وسل عن قرينه * * فكل قرين بالمقارن يقتدي.

ويقول الشافعي:

إذا لم أجد خلا تقيا فوحدتي ** ألذ وأشهى من غوي أعاشر

وأجلس وحدي للعبادة امنا ** أقر لعيني من جليس أحاذره.

«اَللّهُمَّ وَفِّقْني فيهِ لِمُوافَقَةِ الأَبْرارِ، وَجَنِّبْني فيهِ مُرافَقَةَ الأَشْرارِ، وَآوِني فيهِ بِرَحْمَتِكَ إلى دارِ الْقَرارِ واِهْدِني فيهِ لِصالِحِ الأَعْمالِ، وَاقْضِ لي الحَوائِجَ والآمالَ».

- القران الكريم «سورة الجمعة»



- القران الكريم «سورة الأعراف»



- تفسير الميزان للطبطبائي



- دعاء «مفاتيح الجنان»