آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 1:52 ص

فاقضِ ما أنتَ قاض

طاهرة آل سيف

قد لاكت الألسن سرائرنا كما تُلاك لقمة علقمية المرارة، ثم تُبصق من عمق البلعوم على وجه الأرض، فينتشر ريحها وينشز صوتها، مشهدٌ مقزز لكن حقاً هذا مايحدث حين اطلاق الأحكام المسبقة على الآخرين، هناك قاضٍ صغير قد أمَّر نفسهُ وتبوّأ من صاحبه كرسياً عالٍ وظلّ يرى الناس صغاراً ويرونه من حيث هناك صغيراً أيضاً، قاضٍ لم تنصبه محكمة ولم يدرس القانون يوماً حتى يفْرِق الأمر، لكنه لايزال ليله مع نهاره ممسكاً بمطرقة الفصل، ويحسب نفسه في يوم الفصل يرمي هذا ويصوب ذاك، وأما حقيقتنا الجوهرية فهي مضطربةً بين يديه كاضطراب حديدة مابين جاذب وجاذب، لاهي قارةً في الأرض ولا راقيةً إلى السماء، إن ماثلتهُ أدناك وإن خالفتهُ أقصاك.

إن كان لك قاضٍ مثله قد سكنك من حيث علمتَ أم لم تعلم فاقتله في مهده قبل أن يكبر، فإن لم تفعل فعزائي لكَ، فقد مات السلام فيكَ موتةً لانشور لها من بعد، فمن مثل هذا تُطلق الأحكام جزافاً على غيرك، ومن مثل هذا تولد صراعاتك مع نفسك وتخاصمك الدائم معها وإحجامك عن عقد الصلح.

لكي ترقع الفتق في ثوب نفسك، عليكَ أن تقبل الفتق أولاً، اقبل ضعفك وانكساراتك، هزائمك وزلاتك، نقصك ومخاوفك، ارمِ بذكريات الأسى والقهر عبر النافذة، واحمل قهرك وآلامك على جنح الريح فتأخذها عنك مكانًا قصي، اقبلها وستتوقف عن تصنيف الناس وإخضاعهم لأحكامك، والبحث عن أشباهك ونظائرك، فالناس ليسوا مرآتك، ولم يُخلق الكون على مبدأ التسوية أبداً، قد فعلها غيرك قبل ملايين السنين من ولادتك ولم يفلح، ناقشَ الله على مفاضلة الطين والنار فتوعده بالنار واندحر مهزوماً، أما على سبيل الطينة والطينة فلكَ أن تعد الاختلاف ولن تحصيه، ولكَ أن تلهث وراء النظير ولن تبلغه، فأنتَ تلهث وراء مايخالف الفطرة، فطرة الإختلاف.

حين تخلع عباءة القاضي ستنخلع من جوفك الكراهية لكل فعلٍ خلاف ماتفعل، وكل فكرٍ خلاف ماتفكر، وكل ثقافة خلاف ماتعرف، في الحقيقة ستتجرد من كل علائق الماضي، وسينحسر تاريخك القديم، وستدخل تاريخًا جديدًا مطلقاً سيكون الله باديًا فيه فكما قيل «إن الله لايكون حيث تكون الكراهية والحروب» وستكون أولى أبوابه التفكر، وأول ماسيطرق باب فكرك، سؤالك عن خلافتك في الأرض، هل أتيت من أجل العبادة وكفى؟ أم أن هناك رسالة حملتها معك من عالم ماقبل ذر الأرواح في الأجساد؟ وعليكَ أن تبدأ بالبحث عنها في هذه الدنيا، فسترفع رأسكَ للسماء تبحث عن الأفكار فمنها يبدأ الإلهام وتقلل من نظركَ للأرض فمنها تبدأ الخصومة، سَتَعْرِض نفسكَ كل يوم على الفضيلة وتبحث عن نظائرها في نفسك بدل أن تبحث عن نظائركَ في نفوس الناس، حينها سينبت في قلبكَ إكسير وهاج يوجه النور نحو كل صفات الكون وصوره ويكسيها بشيءٍ من القداسة، فستتحول من الحكم على الكون إلى التحكم في معطيات الكون، حين تواجه كل مافيه بحالة متراخية من الرضا والقبول، ستنظر لكل الأيام على أنها سيقت وفي باطنها الرحمة، وحتماً ستكافيء الدنيا صنيعك وحسن سريرتك وتستجيب لنواياك البريئة.

تُدهشني قوة رجل قضى سبعة وعشرين عاماً من عمره في زنزانة ضيقة لايبصر إلا ظُلمة ولا يسمع إلا تلوثاً ولا يشعر إلا عذابًا، رجل مثل نيلسون مانديلا كيف تجاوز زيارات الموت المتكررة في أيامٍ طويلة من العتمة، ثم يخرج بعد طول الأمل وقلبه لايحمل أدنى كراهية للحياة، بل ويمضي ويقضي ماهو قاض وينفذ رسالته، من أين استمد كل هذا السلام؟ وهو قد عاش جُلّ عمره فيما أشبه بتابوت على سطح الأرض، لاشك أنه تجاوز نفسه وتجاوز الكون كله بما فيه من عنف وأسى وعنصرية وأحزان سحيقة، وارتقى جنح رسالته التي خُلق لها ولاشيء آخر.